د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
أعلن سمو ولي العهد الأمير محمد توديع مرحلة التشدد الديني أو ما أسماه البعض «بالصحوة» إلى غير رجعة، وهي فترة يرى الكثير أنها أسهمت في تعطيل كثير من جوانب التنمية وخاصة تلك المتعلقة بالمرأة، والعلاقة مع الآخر عبر فرض وصاية دينية صارمة على الأنشطة المجتمعية تصل أحيانًا إلى «الاحتساب التطوعي» الذي يسمح لكل من يرغب التدخل في حياة الآخرين بأي شكل أو أسلوب ما دام يدّعي أن هدفه نبيل وهو نصرة الدين. والحقيقة أن لقرار سمو ولي العهد جوانب اجتماعية أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها وتتعلق بإعادة تأطير الحوار الاجتماعي وتقليص فجوات الاختلاف فيه.
فالصحوة، كما تسمى، توسعت في تطبيق مبدأ «سد الذريعة» وجعلته ذريعة في حد ذاته لنشر التشدد وتحجيم كل من يختلف معها. ومعظم جوانب التشدد التي نشرتها الصحوة لا تتعلق بأمور محرمة قطعيًا بل بأمور خلافية لم تنزل بها نصوص قطعية بل حرمت بناء على أدلة انتقائية بعضها من سير أناس لم يرد لها ذكر في كتب السير الأساسية المعروفة، ومن أهم هذه الأمور: كشف المرأة عن وجهها، تحريم الموسيقى، التحريم القطعي للاختلاط، وتحريم قيادة المرأة وعملها على أنه امتداد للاختلاط. ومنعت كثير من أمور الترفيه لأنها فقط تخل بالوقار الديني.
الخوض فقيهًا، بناءً على النقل فقط، في هذه الأمور أمر شائك جداً فالتراث الإسلامي الفقهي مليء بالاختلافات المذهبية والفقهية. وإنزال ما هو مختلف عليه منزلة المحرم قطعيًا، وتحريم كل ما لم يرد به نص إباحةٍ سواءً سدً للذريعة أو غيرها يعد نهجًا متشدداً له امتداد تاريخي قريب في تاريخنا حيث نزع بعض الأخوان لتحريم كل ما جهلوه أو لم يعرفوا له أصل. وكثير مما حرم قطعيًا عبر سياقات تاريخية معينة تمت أباحته بل إن بعض الدعاة مارسه أكثر من غيرهم بعد أن ثبت خطأ تحريمه ومن قبيل ذلك: البرقية، التلفون، التصوير، التلفزيون، الميكرفون، الغناء بلا موسيقى. وكثير من الأمور المختلف عليها نصيًا تشكل أرضية مناسبة لبعض الدعاة تتيح لهم اتخاذ مواقف مختلفة حسب الظروف والسياقات الاجتماعية والسياسية. فالداعية يتبنى رأيًا متشددًا في سياق اجتماعية منغلق يكثر فيها التوجس، ويتبنى نقيضه إذا ما أحس ببداية توجه وسياق انفتاحي مختلف قد يتسبب في إقصائه. فالدعوة بالنسبة لبعض الدعاة عمل جماهيري شعبوي يقتضي البقاء في دائرة الضوء مهما اختلفت الظروف.
فلم يكن مستغربًا أن نسمع كثيرًا من الفتاوى مؤخرًا تنسجم مع التوجهات الجديدة وتفتي بعدم وجود نصوص قطعية في تحريم الغناء أو منع الاختلاط، ولكن المستغرب أن ترى أحد الدعاة الذي كان يبكي خشوعًا وخوفًا على الناس من ذنب الاستماع لمزامير الشيطان، يغني ويتمايل على أصوات غناء شعبي به موسيقى. فما اتخذ من قرارات قطعية حول أمور أختلف عليها لزمن طويل مثل الموسيقى أو المرأة ستسهم بلا شك في انفتاح المجتمع بشكل صحي. وهذا أيضًا سيسمح في تطوير كثير من جوانب اقتصادية كانت مهملة في السابق وهي قطاعات تعد اليوم قطاعات اقتصادية مهمة كقطاع الترفيه. وحقيقة أن الترفيه مهم للإنسان، ومهم لصحته، ومهم لإنتاجيته، لا يختلف عليها اثنان إذا ما توفر لهما الحد الأدنى من الثقافة. ولا يخلو مجتمع من المجتمعات من شكل من أشكال الترفيه. فالترفيه للأطفال والناشئين والبالغين ضرورة للنمو النفسي والعقلي السليم. والترفيه ضروري لصحة المواطن النفسية. غير أن الترفيه، على عكس المناشط الأخرى كالتعليم والعمل يقوم على مفهوم خاص للعلاقات الاجتماعية، مفهوم يرتكز على الاختيار الفردي لا التنظيم الاجتماعي. ولذا فقد يجدر بالجهات الرسمية أن تعيد النظر في انخراطها في تنظيم النشاطات الترفيهية للمجتمع وخاصة تلك المرتبطة بالأمور المختلف عليها، كالحفلات، ودعوة الفرق الخارجية وغيرها، وأن تترك ذلك للأنشطة الفردية والمؤسسية المستقلة بحيث تكتفي الدولة بإصدار التشريعات المنظمة لهذه الأنشطة فقط وذلك لعدة أسباب: أولها ألا ينظر للعلاقات في الأنشطة الترفيهية على أنها امتداد للأنشطة الحكومية الأخرى التي تخضع للعلاقات الرسمية فينفي عنها صفة الترفيه؛ ثم أن تظهر الدولة على أنها على المسافة ذاتها من كافة مواطنيها وأنها لا ترغب في تحييد أي طرف حتى ولو كان له رأي مخالف، فالدولة هنا تشجع الاختلاف الصحي على كافة المستويات وتكتفي فقط بتنظيم هذا الاختلاف؛ تولي الأفراد والمؤسسات تنظيم ترفيهم بأنفسهم يوفر على الدولة كثير من الجهد والمال، كما أنه يتيح للأفراد توفير الترفيه الذي يرغبون فيه ويتعلمون تحمل مسؤولية تنظيمه ومسؤولية ما يترتب عليه؛ تختلف أساليب الترفيه باختلاف الأذواق ولا أحد يرغب باستبدال الوصاية الصحوية بوصاية ترفيهية.