د. محمد عبدالله العوين
شهدت بلادنا في أواخر القرن الهجري الماضي حراكًا دينيًا نشطًا متداخل الاتجاهات متعدد المرجعيات؛ فبعض ملامحه لا يخلو من اتكاء على بعد سلفي، وبعضه ينزع إلى ارتباط عميق بالتقاليد والعادات الاجتماعية، وظهر اتجاه ديني آخر قوي يمزج بين شيء من السلفية غير الواعية والتأثر بفكر جماعة الإخوان المسلمين، وثمة اتجاه رابع عمل بذكاء وكفاءة حزبية منظمة وحفر عميق متأنٍ في التربة السعودية على قاعدة حسن البنا في رسائله وفي كتابه الذي وضع فيه خطة العمل الحزبي للجماعة «مذكرات الدعوة والداعية» واعتمد كذلك على تأكيد أفكار سيد قطب عن الحاكمية في «معالم في الطريق».
ولا يتردد باحث عن الحكم على ما اجتمع لدى الجماعة من مقولات متطرفة بأن منهجهًا ليس إلا تعسفًا مكشوفًا للنصوص للوصول إلى الغاية المقصودة؛ وهي «التغيير» أو على الأصح الوصول إلى السلطة والانقلاب على الأنظمة الحاكمة، ومن ثم فرض ما تؤمن به الجماعة على الناس بالقوة؛ كما فعلت «داعش» بعد ميلاد جماعة الإخوان باثنين وثمانين عامًا، وداعش هي الصورة الحقيقية الناضجة للجماعة التي اكتمل فيها التأسيس الحزبي الطويل، والتلفيق الفكري الذكي من الخوارج في الماضي السحيق، أو من الفقهاء كابن تيمية، أو ابن عبد الوهاب، أو من المفكرين في العصر الحاضر كحسن البنا وسيد قطب والمودودي وغيرهم، فمهمة التنظيم تأسيس مرجعية وإيجاد تفسير لما يفعلون، حتى لو زور الرأي وحرف إلى غير مراده.
لقد مر الفكر المتطرف في التاريخ الإسلامي بمراحل هي: الخوارج ثم الإخوان، ثم القاعدة، ثم داعش.
و»داعش» التي توشك على الانقراض الآن كتنظيم عسكري - على الأقل «في العراق والشام واليمن وليبيا هو الصورة البشعة القبيحة لتزاوج المفهومات المتعسفة الملفقة من كل الجماعات والتوجهات؛ فقد تجد مقولة سلفية لابن تيمية أو ابن عبد الوهاب في خطاباتهم ثم مقولة إخوانية لسيد قطب من المعالم أو الظلال، ثم مقولة حركية من قادتهم كابن لادن أو الظواهري، وهو خلط مقصود، وتوظيف منذاك لكل ما يعزز فكرة الخروج والانقلاب والتغيير والفوضى.
لا يمكن أن نعد حركة «جهيمان» التي تفجرت في الحرم المكي الشريف 1- 1-1400هـ ذات شأن؛ لأنها أقرب إلى السذاجة والغباء والجهل، وربما أسعفه الفارون إلى المدينة المنورة من جماعة «التكفير والهجرة» بما منح اتباعه وأفكاره اندفاعًا انتحاريًا تلفع بادعاء الجهاد والشهادة.
لكن الاتجاه الرابع الذي مزج بين السلفية والإخوانية الناتج عن هجرة إعداد كثيرة من جماعة الإخوان المسلمين إلى المملكة بدءًا من أواخر الثمانينيات الهجرية من القرن الماضي هو الاتجاه المؤثر الذي غير وجه الحياة بصفة شاملة في بلادنا وأعاد صياغة المجتمع في التعليم والإعلام والتثقيف والترفيه، وحتى في الأشكال والأزياء للرجال وللنساء.
وحينما أقول إن هذا الاتجاه الذي اختطف المجتمع السعودي ما يقرب من أربعة عقود قد تأثر بفكر الإخوان وبشيء من الاتجاه السلفي؛ فإنني لا أتجنى على الجماعة ولا على السلفية؛ فرموز الجماعة التي لجأت إلى بلادنا اشتغلت بذكاء ولم ترد الصدام مع السلفيين فاجتهدت لتبدو سلفية معتدلة في الظاهر وإخوانية ثورية في الباطن كما فعل محمد سرور، وإن كان بعضهم في مجالسهم الخاصة يشنعون على السلفيين ويلمزونهم بالسذاجة ويريدون أن يقفزوا على أكتافهم ويعملون من خلالهم ثم يحيدونهم، ثم أن أبناء البلاد المتأثرين بفكر الجماعة هم أيضًا تلاميذ مخلصون للمدرسة السلفية وتخرجوا فيها، والسلفية التي عهدناها وألفها المجتمع السعودي ووجدنا آباءنا عليها معتدلة هينة لينة طيعة وغير صدامية ولا انقلابية؛ ولكن جماعة الإخوان تريد أن تخرج جيلاً آخر مختلفًا على هوى فكرها؛ فعملت على اجتزاء النصوص وتفجيرها بتفسير إخواني ثوري انقلابي، ربما كان من ثمراته الجلية أسامة بن لادن ومن نهج نهجه ممن استقطبهم تنظيم «القاعدة».
يتبع