د.عبد الرحمن الحبيب
يعلق البعض على مشروع «نيوم» بسلبية قائلاً بأنّ التحديات ضخمة، دون تشخيصها وطرح الحلول.. أو عندما يقول بخمول: «المهم التنفيذ».. منطق سليم لكن غير مفيد.. أما الأكثر سلبية عندما يظهر من يضع رِجلاً على رِجل ويمط شفتيه بكسل قائلاً: إنه عرض إعلامي وعلاقات عامة..
ربما هذه التعليقات السلبية ترجع إلى النقلة النوعية الكبرى لرؤية المملكة 2030 ومشاريعها وآخرها مشروع «نيوم» العملاق، مقارنة لما اعتادوا عليه، من منهجية القرارات الدورية (التعاميم) لكل قطاع على حدة التي قد لا تتسق بين القطاعات، فضلاً عن الافتقار للإستراتيجية لكل قطاع التي إنْ وجدت قد لا يقرأها حتى رئيس القطاع.. إنما رؤية 2030 ومشاريعها، التي يديرها ويرعاها سمو ولي العهد، تمثل تحولاً ليس في محتوى الخطة فقط، بل أيضاً في منهجية التخطيط.. والمأمول في نهاية المطاف هو التحول من اقتصاد ريعي يعتمد على النفط إلى اقتصاد استثماري يعتمد على الإنسان وتوظيف الموارد.
القول بوجود تحديات هو ليس اكتشافاً من النقاد، بل إنّ مهندس رؤية المملكة 2030 سمو ولي العهد قال عن فرص نجاح مشروع «نيوم»: «نفهم حجم التحديات.. الحلم مسألة سهلة، لكن تحقيقه ليس بالأمر السهل». في تقييمه لمشروع نيوم يقول البروفيسور جاك وليام من جامعة نيويورك: «أعجبت بهذه الجرأة للقيادة السعودية الشابة..» لكنه نبّه لتحديات ستواجهها دولة نامية كالسعودية لكي لا تكون هناك فجوة يمكنها إعاقة هذا المشروع الجبار، يمكن تلخيصها في ستة تحديات: تهيئة العاملين في أجهزة الدولة، إصدار أنظمة وقوانين مصاحبة لهذا المشروع، تهيئة الرأي العام عبر خطة إعلامية جماهيرية، رفع معيار الشفافية، وضع خطة مالية عصرية، مكافحة الفساد بفاعلية.
يمكن جمع أكبر التحديات في ثلاثة: التهيئة، الشفافية، الحوكمة. سأتناولها على التوالي. من الضروري تهيئة الموظفين لثقافة وفعالية أداء جديدة، وتهيئة الرأي العام لهذا التطور السريع عبر المشاركة الفعلية الدائمة من المؤسسات الحكومية والمدنية، ولا يُكتفى بالمشاركات الطارئة في ندوات دورية يفاجئ بها المشاركون دون تحضير. الناس أكثر عرضة لتغيير عاداتهم إذا طرحوا أفكارهم في الموضوع علانية مع الآخرين مما لو أنهم ببساطة استمعوا لمحاضرات إرشادية، حسبما كشفت عنه الدراسات الميدانية لعالم النفس الاجتماعي كورت ليوين الذي صاغ «نظرية المجال»، وخلاصتها أنّ تطبيق القرارات يتأثر بالسياق الاجتماعي، وأنه حتى أعضاء المجموعات المختلفة جداً في وجهات النظر سوف يعملون معاً لتحقيق هدف توافقي مشترك إذا تقابلوا لطرح أفكارهم.
أما أفضل وسائل المشاركة فهي الشفافية؛ ورغم أنّ وثائق الرؤية أكدت على الشفافية وطبّقتها فعلاً بتوفير المعلومات، إنما الشفافية ليست فقط توفير المعلومات بل أيضاً وضوحها والعمل على إيصالها سريعاً. الأبحاث الحديثة تشير إلى أنّ هناك ثلاثة ركائز أساسية للشفافية الإدارية: الإفصاح عن المعلومات، الوضوح، الدقة (سكناكبرج وتوملسون، 2014).
الإنترنت بدوره وسع من فاعلية الشفافية والمشاركة الشعبية، حتى أنّ الأبحاث الأخيرة (دراسة سوزان مولر وآخرون) تؤكد أنه أصبح أهم عناصر الديمقراطية التشاركية أكثر من الانتخابات التي تحصل كل بضع سنوات، لأنه يسهل على الآخرين بشكل يومي معرفة ما يتم إقراره من تشريعات وإجراءات تنفيذها، ومن ثم تمنحهم القدرة على المساءلة والاقتراح..
هنا سيكون لمركز دعم اتخاذ القرار دور بارز في مواجهة التحديات عبر تسهيل قنوات الاتصال مع الرأي العام.. فأهم وظائف هذا المركز هي فهم توجهات الرأي العام قبل اتخاذ القرار، وفهم ردود الفعل بعده.. وإيجاد الوسائل المناسبة لتوعية الرأي العام حول القرارات المتخذة والموضوعات المطروحة والقضايا المثارة، فهناك قرارات جديدة تتوالي بسرعة قد لا يستوعبها الموظفون والجمهور.. وللمركز مهام أخرى مثل زيادة الرقابة التنظيمية لمتخذ القرار، التعجيل في حل المشكلات، اكتشاف أساليب جديدة للتفكير وفتح فضاء أوسع لحل المشاكل..
وأفضل وسائل المتابعة لمشاريع الرؤية هي الحوكمة، فنظام الحوكمة المتكامل الذي أعلنه العام الماضي مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية لتحقيق رؤية المملكة 2030، يحدد أدوار ومسؤوليات الحوكمة على ثلاثة مستويات: على مستوى رسم التوجّهات والاعتماد (مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية)، على مستوى تطوير الاستراتيجيات (اللجنة الاستراتيجية بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية)، على مستوى الإنجاز (الجهات التنفيذية كالوزارات). مثلاً عند تعثُّر المشروع على الجهة التنفيذية حل المشكلة أو يتم تصعيدها لمكتب الإدارة الاستراتيجية الذي بدوره عليه تسويتها أو رفعها للجنة الاستراتيجية وهكذا..
أما المساءلة، في هذا النظام، فهي تتضمن عمل جهات عدة بطريقة تراتبية متسقة، فضلاً عن مركز الإنجاز والتدخل السريع باعتباره الذراع الداعمة للحوكمة؛ إنما أكثرها تحديداً المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة العامة الذي سيشكل البنية التحتية للحوكمة من شفافية وقياس الأداء وإشراك المجتمع عبر نشر تقارير دورية مدققة..
من معرض ما قاله الأمير محمد بن سلمان، خلال جلسة نقاشية ضمن «مبادرة مستقبل الاستثمار» وشرحه لمشروع نيوم: «.. «لا نريد أن نرى أنفسنا بعد 15 سنة فوّتنا فرصاً كان يمكن أن نبدأها الآن، هذا تحدٍ يقلقني، لكن بلا شك بالعمل ومشاركة الكثير من العالم والسعودية سنجتاز هذا التحدي».