د. محمد عبدالله الخازم
ختمت مقالي الماضي بالأسئلة؛ هل سيحدث فراغ نتيجة تهميش الرابطة الاجتماعية التي تمثلها الصحوة؟ هل سنعود لإعلاء القبيلة؟ أم ما هو البديل؟ وقبل محاولة الإجابة أشير إلى أنّ التحولات الاجتماعية ليست بنياناً معمارياً نأخذ منه طوبه لنبدلها بأخرى وإنما أراه موجات متداخلة، وبالتالي فلا يعني القول إن دور القبيلة تلاشى أنها انتهت تماماً، وإنما تقلّصت قواها لصالح قوى أخرى والأمر سيحدث مع الصحوة، ففي النهاية هي فلسفة حياة دينية اجتماعية، لها معالم دون تعريف محدد، لن تنتهي بين يوم وليلة، وإنما سيقل أو يحيد أثرها كظاهرة اجتماعية في الفضاء الاجتماعي والسياسي العام.
مع ملاحظة أنّ الأسئلة والقراءات السريعة هنا لا تبحث عن إدانة أو إلقاء اللوم على أحد أو الحكم بصواب توجُّه دون الآخر، يبدو لنا أنّ البديل الحضاري الذي نحتاج تشجيعه كبديل لمؤسسة أو رابطة الصحوة ورابطة القبيلة، هو تطوير مؤسسات المجتمع المدني وتعزيز منظومة قيم حضارية متقدمة. مؤسسات المجتمع المدني تمثلها النقابات والمؤسسات المجتمعية التي تدعم اشتراك الناس ومشاركتهم في تطوير مهنهم وحياتهم الاجتماعية بمختلف مجالاتها. أن ينتمي الناس إلى مؤسسة مهنية - مثلاً - تدافع عن حقوقهم وتطور مهمتهم، يسهم في تعزيز الوحدة الوطنية، وفي تكوين روابط يلتف حولها الناس كبديل للقبلية والمؤسسة المتشددة. مؤسسة المجتمع المدني الأهلية يتحتم وجودها في ظل رؤية 2030 الرامية لتطوير الاقتصاد عبر التخصيص ودعم الاقتصاد الحر .. إلخ. لأنه يصعب تحويل الجامعة أو المستشفى أو المؤسسة الخدمية إلى مؤسسة أهلية مستقلة أو خاصة، دون وجود منظمات مجتمعية تدافع عن حقوق الناس أصحاب المهن، وتشارك في الرقابة والحوكمة، وتشارك في تطوير المعايير المهنية .. إلخ. هكذا هي المجتمعات المتطورة تتكون السلطات فيها قوى تنفيذية وقضائية ورقابية وتشريعية ومجتمعية وأهلية .. إلخ.
هذه الفكرة كان لها إسهام ملهم في بدايات الدولة السعودية، وهي جزء من تصورات يطرحها المسؤولون أحياناً. فعندما يعلن سمو ولي العهد بأنّ مجتمع نيوم سيقوم على المشاركة من قِبل سكانه، في اختيار نظام الحوكمة التي تخصهم وفي اختيار المجلس الذي يمثلهم، فإنّ هذا يعني أنّ مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية - وإنْ لم تُذكر بنفس المسمّى -، ستلعب دوراً كبيراً في مستقبل نيوم ...
هناك هيئات وجمعيات يراها البعض نواة مجتمع مدني. ولكي تنجح مطلوب (1) استقلاليتها عن الجهات التنفيذية و(2) إعادة تنظيمها لتدافع عن مصالح المنتمين لها ومهنهم، وتساهم في التشريع والرقابة وفق أُطر منظمة. نحتاج مؤسسات مدنية تمثل المهن والمهنيين؛ الأطباء، المهندسين، العقاريين، الصنّاع، التجار، إلخ. مؤسسات المجتمع المدني أو الأهلي تمثل دعامةً لمؤسسات الدولة وصمام أمان يحل أو يقلِّص دور مؤسسات التشدد والقبائلية، باعتبار الروابط الاجتماعية تتشكل وفق حاجات الناس وفائدتهم الاجتماعية والاقتصادية والأمنية...
البديل الآخر المطلوب أو المكمل هنا هو تكريس قيم حضارية متقدمة، تتبنّاها الدولة وتروّجها وتسير على هداها في التعليم والتوظيف والمحاسبة، مثال قيم تقبُّل الآخر، قبول التنوُّع، نبذ التعصب، عدم التمييز الفئوي .. إلخ. هذه القيم نرددها نظرياً لكن نحتاج دعمها عبر التشريعات والإعلام والتعليم وكافة أشكال الممارسة.