د.ثريا العريض
رؤية التحول 2030 تتضمن حلما يعدنا بدخول عالم مستقبلي الأبعاد والآفاق. حلم أرجو شخصيا أن أراه يتجسد.
كان هناك زمن لم يعرف فيه وطني شبكة كهرباء أو ماء أو سيارات أوتكييف.. وعبرنا بين طفولتي والآن بقفزات متسارعة إلى المدن المكتملة بأبراج عمارات شاهقة. ونعايش الآن العالم وقد أصبح قرية صغيرة، والتواصل المعلوماتي بين أقصى أصقاع الأرض أمسى فوريا بتوفر شبكة التواصل الإلكتروني، والوسائل المختلفة من فيسبووك لتويتر للإنستجرام للسنابشات.
بقي الانتقال جسديا لايزال مجالا للأبحاث والتطور. وما زال أقصى ما وصلنا إليه بعد امتطاء ظهور الخيل والجمال هو الانتقال بالسيارات بين المدن والبلاد المجاورة، أو بالسفن وعابرات المحيط غالبا في رحلات تجول ترفيهي، وبالطائرات من موقع إلى آخر عبر الفضاء المحيط بالأرض، وعبر الصواريخ في رحلات علمية استكشافية إلى الفضاء الخارجي.
خلال سنوات عمري جربت كل طرق السفر الحديثة لأغراض مختلفة، بما في ذلك طائرة «الكونكورد» الأسرع من الصوت، التي أوصلتنا نيويورك في ثلاث ساعات.
درت حول العالم وزرت القارات الخمس. وفي كل رحلة لموقع ما أجد شيئا ما يشدني لأعتبره جميلاً. وفي كل رحلة تالية لنفس الموقع أجده قد تغير عما سجلته في الذاكرة من تفاصيله؛ ازداد تطورا وغالبا فقد بعض جماليات خصوصية هويته السابقة. لندن الراقية عام 1960 ليست نفسها لندن المكتظة عام 1990، وسنغافورة البدائية عام 1975 ليست سنغافورة المتصدرة عام 2014، والهند وأستراليا الملتبسة عام 1976 ليست نفسها بعد تقنية العولمة عام 2015. حتى مدن وشواطئ الخليج في رحلات طفولتي الى الجوار القريب تغيرت كليا منذ الثمانينيات وشمخت بعماراتها واكتظت شوارعها بالزائرين من دول العالم البعيدة يتأملون تحقق رؤى طموحة.
أول سفراتي كانت للهند، وبعدها إيران، وبعدها العراق؛ كلها قبل أن أبلغ العاشرة. فتحت عيني على تعدد مذاقات العالم ولغاته ومعالم تاريخه. أحببت اكتشاف بيروت حين رحلت إليها للدراسة في الستينيات، وتركتها إلى أمريكا، وهي على شفير حرب أهلية لم تبق من معالمها التي أعرفها شيئا حين عدت لزيارتها في التسعينيات. وزرت سوريا عبر لبنان وأتألم إذا أرى معالمها في نشرات الأخبار اليوم مدمرة تمحي.
زرت كثيرا من المدن الكبيرة في الولايات المتحدة وأحببت في كل منها شيئا ونفرت من أشياء. شدني جمال الجبال الشامخة، وفطرية الغابات، وتطور الحياة. واستغربت سطحية معرفة الناس ببقية العالم وتاريخه الحضاري والثقافي، فقد عودني السفر مع أهلي منذ طفولتي أن أستمتع بالتعرف على التاريخ الحضاري لكل موقع نزوره وتفهم إرثه.
على مدى ذاكرة التاريخ، الإنسان الواعي يبني.. والإنسان الأناني يغزو ويدمر.. والإنسان الضحية يعاني العنف والتهجير واللجوء والإقصاء.
بكيت في الأندلس تاريخ العرب، وتأثرت في إسطنبول بمعالم رقي الحضارة الإسلامية، وتأملت في مصر تاريخ الفراعنة. تأملت بقايا جدار برلين الذي ترك ليشهد على جور الإنسان، والجزيرة التي قضى فيها مانديلا 26 عاما سجينا لنظام الفصل العنصري، وتذكرت بألم تقلص فلسطين ومعاناة الفلسطينيين المستمرة. وزرت في فيينا مهرجان الموسيقى ومركز الحوار الفكري بين الأديان، وفي باريس المعهد العربي ومتحف اللوفر، وتألمت لكنوز الآثار المسروقة من الشرق الأوسط التي احتشدت بأوروبا.
وخلال كل رحلة ظل الحنين الحي لوطني الخليجي بصحاريه وسواحله وجباله.. لم يخفق القلب لأي مدينة شرقية أو غربية، بل فقط الإعجاب برقي احترام التاريخ وشغف التشييد ورقي الالتزام بالنظام.
الآن أسعد بما أراه من الجهود الحثيثة لتحديث الوطن؛ توسيع الحرم وتطوير خدماته ليستقبل موسم الحج ملايين الحجاج. وهيئة السياحة والتراث تطور مواقع الآثار بشتى مناطق المملكة، وتشجع السياحة الداخلية، ومؤخرا المبادرات الفتية لهيئة الترفيه لإعادة الحياة الطبيعية ثقافيا وفنيا إلى أصقاع الوطن من أبها والخميس للباحة للطائف لجدة للرياض والقصيم، للإحساء للدمام والخبر والقطيف والظهران.
منذ الثمانينيات كنت دائما مقتنعة أن أجمل مناطق العالم ممكن أن تطور في الوطن، وأعلم أن البحوث القادمة ستركز على إحياء التاريخ ومكنوز المخازن الطبيعية لما تتميز به المناطق المختلفة من موارد وجمال إرث غني لم تواكب ثراءه منجزات اليوم.
الآن أقف أتأمل الحلم الفاره بمدينة «نيوم»، ومشروع منتجع البحر الأحمر والقدّية وما يدعمها من مستجد التحول الثقافي وتطوير المناطق المختلفة.. وأطمئن أننا عدنا إلى الحراك الحضاري. وسأسعد بمتابعة أصداء إعجاب الزائرين المواطنين والمقيمين والعابرين، وبمشاعر الاعتزاز تنعكس في حوار الكبار وأغاني الصغار القادمين.