د. محمد عبدالله العوين
استقر مفهوم «الدولة المدنية» في شكل الدولة الحديثة التي بدأ الملك المؤسس عبد العزيز -رحمه الله- في تكوينها منذ أن لملم شتات قبائل شبه الجزيرة العربية ونظّمها في مملكة واحدة عام 1351هـ في استعادة لمجد الدولتين السعوديتين الأولى والثانية، وبدأ المؤسس مبكراً جداً بتهشيم مفهوم القبلية مهما تلوّنت بأية صبغة؛ كما كان الشأن في حركة «إخوان من طاع الله» فبدأ بتأسيس مراكز التعليم الحديث وفسح المجال للنابهين لإبداء الرأي الداعم من خلال الصحافة في خطوات التغيير إلى الدولة المدنية الحديثة، ومقاومة الأفكار البالية المتكئة على الموروث من مفهومات التقاليد الاجتماعية التي لا تتفق مع قيم الإسلام، وهكذا واجه حركة الرفض الأولى للتحديث بحكمة الحوار ثم بحزم القرار ممثلة في جماعة «إخوان من طاع» عام 1347هـ في معركة السبلة وأمر بهدم قرية «الغطغط» التي كانت مركزا لتجمعهم.
وقد انطلقت البلاد بعد ذلك في سعيها نحو التطوير بدون عوائق تذكر، وكان عدم القبول من بعض الفئات الاجتماعية للمستجدات غير مستغرب؛ لكن تلك الفئات الاجتماعية التي وجلت من المستجدات التي لم تألفها ما تلبث إلا قليلاً من التردد ثم تقبل عليها؛ كما حدث في قضايا التعليم النظامي للبنين، وتعليم المرأة، والتلفزيون، والتصوير، والابتعاث وغيره.
وقد نجح الملكان سعود وفيصل -رحمها الله- في مواجهة المترددين في قبول تعليم بناتهم أو إدخال التلفزيون إلى بيوتهم بالحوار والتوعية في القضية الأولى، وبالحزم العسكري في القضية الثانية .
وإذا كانت الموجة الأولى من الرفض للتحديث التي تمثّلت في تجمع بدوي قبائلي مشبع بروح دينية غير واعية عند جماعة «إخوان من طاع الله» 1347هـ وواجهها المؤسس العظيم بالحكمة والصرامة اللازمتين في خطين متوازيين؛ فإن موجة أخرى من الرفض للانفتاح على علوم العصر وثقافات الحضارات الإنسانية تفجّرت في الحرم المكي الشريف في حركة أخرى جديدة بتاريخ 1 محرم 1400هـ تشبه جماعة 1347هـ من جوانب التشكل بروح دينية مندفعة وغير منضطبة أو «جاهلة» وتتفوّق عليها بأنها استمدت ميكانيزم تحركها من رؤى أيدلوجية حزبية وافدة من فكر «جماعة التكفير والهجرة» المصرية واتكأت أيضاً على الانسياق وراء أوهام الأحلام وتقولات مفسريها والتلاعب بها على العامة والغوغاء؛ تلك هي الجماعة التي عرفت وسميت باسم قائدها «جهيمان» ولكن دراسين عرفوها وفق قراءات نقدية لخطابها الفكري والسياسي بـ»السلفية الجهادية المحتسبة».
الحق أننا لو انسقنا وراء هذا التحديد في التعريف السخي لجماعة «جهيمان» فإننا نمنحها رداءً فضفاضاً واسعاً ترديه، ونهبها لقباً كبيراً تتسمى به أو يتلقب به من يذهب إلى ما ذهبت إليه من أوهام؛ فلا هي سلفية حقيقية، ولا هي جهادية في موضع الجهاد، حيث يجب أن يكون تحت راية وإذن ولي، ولا هي محتسبة احتساباً منضبطاً وفق تعاليم الشرع الحنيف يهدي إلى الخير ويعين على استقرار الأمن وجمع كلمة المسلمين بدلاً مما ارتكبته الجماعة الجاهلة من بغي وعدوان على حرم الله وإراقة لدماء الأبرياء الآمنين وخروج على ولي الأمر وإمام المسلمين، ومنع للصلاة في بيت الله ثلاث جمع.
ومن الغرائب التي يحسن أن تدوّن أن عام 1979م الموافق 1400هـ كان عام الأحداث الكبرى المتناقضة؛ ففي 1 فبراير 1979م حطّت الطائرة الفرنسية بالخميني في مطار طهران معلنة بدء مرحلة مأساوية دامية من تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وفي 21 من فبراير 1979م الموافق 1 من محرم 1400هـ انطلقت الصيحة الأولى للتطرف في بلادنا بصوت «جهيمان» من تحت أستار الكعبة المشرَّفة.
تلك الصيحة الغبية المخدرة بأوهام الانغلاق وأحلام الكهنوت والعزلة لم تدع لها الدولة السعودية فرصة لأن تسمع؛ فقد أسكتها سريعاً حزم الدولة الذي سرعان ما يطفئ أية فتنة أو فكر متخلف يعطل الحياة أو يوقف خطوات بناء النهضة السعودية. يتبع