الأزمات الكُبرى التي يمرُّ بها أيُّ مجتمع أو مكوِّن قد تُساهم في بلورةِ مفاهيم جديدة لم تكُنْ موجودةً مِن قبْل، ومنَ المفاهيم التي ظهرَت في حقل الدراسات الفلسفية هو: مفهوم التربية الجمالية الَّذي ظهر بعد نهاية الثورة الفرنسية ذلك بحسب دراسة جمال مفرج لهذا الموضوع، الذي أوردَ بدوره حديثًا ل فريدرك شيلر عن التربية الجمالية عام 1794 م. يرى شيلر أنَّه يجب أن نقوم بالتمييز بين التنوير بوصفه ثقافة عملية والتنوير بوصفه ثقافة نظرية فالتنوير كثقافة نظرية قد اكتمل فالعصر متنوِّر وهو يعني أنَّ المعرفة قد انكشف عنها الغطاء وراجت بين أوساط الناس كما يذكر جمال مفرج، وأمَّا التنوير من ناحيةٍ عملية فقد أخفق بحسب ما يعتقد شيلر ذلك لافتقاره الفاعلية، وعدم انطلاقه منَ الإنسان ذاته وهو يعني أنَّ التنوير يبدأ مِن إصلاح الشخصية نفسها.
لكن كيف تعمل الشخصية على تنوير نفسها هل بواسطة العقل أم بواسطة القلب يعتقد شيلر: أنَّه يبدأ من القلب والطبع قبل أن ينطلق منَ العقل وهو بذلك يولي أهميَّة كبرى للقلب والطبع والعزيمة في إحداث أي تحديث وتنوير وهو لا يُلغي دور العقل تمامًا بل يُريد صناعة تزاوج بين الحواس والعقل في خلق أي عملية تجديد، وينتهي بقوله: إنَّ الفرد الحديث استولى عليه العقل النظري الذي اُبتليَت به الحضارة نفسها بحسب تعبير شيلر.
ويبدو مِن خلال ما سبق أنَّ التركيز هنا لا يكون على العقل وحده في صناعة تنوير بل يجب إحداث تناغم بين العقل والحواس وهذا التناغم لم يكُن موجودًا من قبْل في الدرس الفلسفي، وإنَّما هو صراع لم يتوقَّف بين أنصار العاطفة والحواس وأنصار العقل الذي ساهم في تكوين إنسان جامد لا يقدر على إحداث أُلفة بين عقله وقلبه وحواسه.
إنَّ هذا الإنسان الجامد لهو غريب مُنفصِلٌ عن الجماعة بل أصبح كالشظية جرَّاء ظهور العصر الصناعي وجرَّاء تركيز الفلاسفة على التنوير العقلي المحض الذي يُبعِد التربية الجمالية التي تُربِّي القلب مِن خلال عمل الحواس والعاطفة وتذوُّقِ ما هو جميل ومع هذا فلا نُقصي العقل تمامًا بل نجعله متوافِقًا مع الأحاسيس؛ لكي نُوجِدَ إنسانًا يعيش تواصلا نفسيا عاطفيا مع أخيه الإنسان ومع الجماعة بشكلٍ أعم وأشمل، ولم يقف شيلر عند هذا فقط بل قام بمهاجمة الثورة الفرنسية التي أحدثَت الفوضى والارتباك لمدَّة طويلة وهو يؤمن بالتغيير الذي يحصل من عقل وإحساس الإنسان نفسه لا بالثورات والهيجان الضار. إنَّ التغيير يجب أن يكون بعيدًا عنَ السياسة بحسب رأي شيلر، بل يجب أن يأتي منَ الفن؛ لأنَّه هو العلاج المُنتظَر فهو سيشجِّع على انتشار الأنوار مِن خلال الثقافة العملية أو التربية الجمالية التي ستقوم بالتوفيق بين كثيرٍ منَ التناقضات التي تشهدُها حياتنا، ونلاحظ من ما سبق أنَّ شيلر يربط بين تغيير الإنسان والتربية الجمالية التي سيحصل من خلالها أيُّ تطوير.
إنَّ التربية الجمالية لهي كفيلةٌ بإصلاح الإنسان والجماعة ذلك من خلالِ تأليفها بين المتناقضات كالعقل والعاطفة وغير ذلك من التناقضات التي عاشها إنسان العصر الحديث، والسؤال الذي أختم به هذه المقالة: هل نحن بحاجة إلى إصلاح جمالي ينهض بقلب وعقل الفرد في عالمنا العربي على وجه التحديد؟
** **
- راشد القثامي