تركي بن رشود الشثري
لا يمكن بحال أن تستمر في الإغراق العاطفي أو الغلو العقلاني من دون أن ينطبع ذلك في أذهان المتلقين أو المحاورين لك، فالناس ينظرون للشخصية العاطفية بأنها مندفعة أو رقيقة أو في حالة انفعال دائم فلا يرجون من صاحبها زنة الأمور بالميزان الصحيح وكذلك الشخصية العقلانية الجافة لا يرتجى منها حضن أو تسامح أو هامش للتعاطي الحساس والحل هو التنظيم واستخدام كل من العقل والعاطفة وبنسب منطقية مع كل حدث وموقف بما يناسبه فالعاطفة دافعة ومصدر إلهام والعقل موجه وضابط للحركة فبلا دوافع لا يمكن التحرك وبلا توجيه يحصل الارتطام والسقوط في الحفر.
يقول سقراط ((اعرف نفسك))
هناك حدود يجب أن تكون واضحة بين الفرد والمجتمع فأنت عالم لوحدك ولك شروطك الخاصة ونظراتك المتفردة لست عوداً من حزمة ولا قشة من حقل يابس ولا مسماراً في آلة فقط، وعليه فالتمييز بين الفردي والجماعي على مستوى العقل فلا تنداع مع العقل الجمعي وعلى مستوى العاطفة فلا تتناغم مع الجوقة الطائفية أو المحلية أو المجتمعية عموماً يقول تيوفيل غوتيه: ((على الشاعر أن يرى الأشياء الإنسانية وأن يفكر فيها من خلال نظرته الخاصة دون أية مصلحة اجتماعية أو مذهبية)) وعلى مستويات أكثر من هذا أيضاً على مستوى العادات بل وبعض القيم، ولذلك فرسم حد فاصل بين الفرادة والانخراط المجتمعي بات أمراً ملحاً بحيث يحفظ لك هذا التمييز المكان المناسب فلا تكن نشازاً، وأيضاً يعصمك من التحول إلى رقم في معادلة ويضيف غوتيه ((تكمن السعادة القصوى في شخصية الإنسان)).
الإنسان يأتي لهذه الحياة وقد ركب فيه قُدَر ومهارات كامنة فتقوم العوامل البيئية والمنبهات الاجتماعية بإظهارها بل وبصقلها فالصغير يحاكي الكبار ويحاول إرضاءهم عن طريق الانسجام مع المحيط الاجتماعي ويتأرجح بين عصى المجتمع وجزرته وبذلك نستطيع أن نقول إن الشخصية هي نتيجة احتكاك القدرات والإمكانات الباطنة للإنسان مع العوامل الاجتماعية والتعليمية والثقافية العامة، ولذلك أكدت أبحاث علم الاجتماع أن الوعي بالذات لا يظهر إلا عند الفرد الذي يعيش في مجتمع, وفي الست سنوات الأولى للطفل تتكون شخصيته وتتحد نظرته لنفسه ومجتمعه وتنغرس فيه سمات شخصيته الأساسية وعليه فالعناية أكيدة بهذه الفترة, يقول فردريك لونوار ((التربية والثقافة تمنعاننا أحياناً من إظهار حساسيتنا وتنحوان بنا بعيداً عن ميولنا أو عن آمالنا المشروعة, لهذا السبب علينا أن نتعلم أن نكون أنفسنا بتجاوز البرامج الثقافية والتربوية التي يمكن أن تحيدان بنا عما نكونه إن هذا التجاوز هو ما يدعوه عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ بـ»سيرورة التفرد» التي تتحقق غالباً في حوالي الأربعينيات من العمر عندما نقوم بأول تقييم لوجودنا, نستطيع أن نكتشف أننا لسنا نحن بما يكفي وبأننا نسعى لإسعاد هؤلاء وأولئك من دون أن نراعي أنفسنا)).
بطبيعة الحال مثل هذا الطرح قد يخيل للقارئ تسويغ التمرد أو الإنفلات أو التمكين لغريبي الأطوار داخل المجتمع بأن يمارسوا فرادتهم المقيتة وليس هذا هو المقصود إنما المقصود هو تحقيق القدر الذي لا بأس به من احتضان الشباب العولمي والذي يتواصل مع العالم بسهولة وهو مطلع على تنوع الثقافات والاختيارات والميول وهو في الوقت ذاته يتطلع لشيء من الحرية وممارسة الخصوصية في جو آمن من تهم الغرابة أو الأنانية أو الخروج عن المألوف أو الفشل في الانسجام فنحن بذلك نضمن بقاءه الوجودي داخل المجتمع لا أن يشذ عنه بالفعل ويخلق له عوالمه الخاصة، التي يستطيع من خلالها أن يعبر عن وجوده بعيداً عن مؤسسات المجتمع وقلاعه العتيدة وشيئاً فشيئاً ينسلخ عن مجتمعه, ونحقق بذلك أيضاً التنوع الفرداني الجميل الذي يعبر عن قوة المجتمع وتلاحمه ومرونته الفائقة في تلقف الأفكار والأذواق لعموم أفراده وأيما مجتمع يقاوم بضراوة اختيارات أفراده، خصوصاً الشباب، فلينذر نفسه بالتمزق الداخلي حتى وإن كان ظاهره التماسك الشكلي.
التوفيق مطلوب بين الصمت والكلام فليس كل شيء يعبر عنه بالكلام ففي الصمت إشارات عميقة للحب والسلام والحزن والتأمل الشفيف فلا تهدر كل مشاعرك عبر سجنها في عبارات ضيقة الحدود، فإن الصمت لا حد له، يقول دكتور مصطفى محمود «والحقيقة أن الحروف تحجب ولا تكشف وتضلل ولا تدلل وتشوه ولا توضح وهي أدوات التباس أكثر منها أدوات تحديد»، ويضيف «وللصمت المفعم بالشعور حكم أقوى من حكم الكلمات وله إشعاع وله قدرته الخاصة على الفعل والتأثير», كثير من المشكلات الزوجية والنزاعات الأسرية والتعقيدات في العمل سببها الكلام الزائد الذي لا فائدة منه (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) و(من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) و(لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس) وغيرها من النصوص المتكاثرة والقصائد والحكم والأمثال التي تخبرنا أن الصمت من الذهب ولا مقارنة بينه وبين فضة الكلام وعليه، فأنت مطالب بأخذ حظك الأوفى من الصمت بل وإطالة الصمت التي لا تصل إلى درجة الانقباض, عالمان من العلماء الكبار تميزا بتقنية استخدام الصمت والذي يجيء في وقته صحبتهما وكنت أفهم من صمتهما أضعاف ما أفهم من قولهما والبعض يظن أن هذا يأتي بقرار بمعنى أن يمسي مهذاراً ويصبح من أصحاب السمت الحسن ولم يعلم أنه أمر وهبي/ كسبي، ومن الممكن أن تُنمى هذه الملكة وتطور بالتدريب الدائب المستمر.
إذن لست فاشلاً وإن عانيت شيئاً من الفوضى بين الجسم والروح وبين العقل والعاطفة وبين الصمت والكلام وبين الفرداني والاجتماعي وإنما المطلوب إضفاء مسحة من القيادة الرشيدة لأحوالك أجمع لتنتقل من حال التشويش لحال الصفاء.