د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يقال إنه في عام 1974م كان رئيس الوزراء الماليزي (مهاتير محمد) ضيف شرف في حفل الأنشطة الختامية لإحدى المدارس، حينها طرح فكرة مسابقة للمدرسين، تقوم على أن يقوم كلُّ مدرسٍ بربط مجموعةٍ من البالونات في رجله، وذكر لهم أنه سيبدأ بحساب دقيقةٍ واحدة، بعدها سينال كلُّ مدرسٍ -لا يزال محتفظاً ببالونته- جائزة، وفور أن بدأ الوقتُ هجم كلُّ واحدٍ منهم على الآخر في محاولاتٍ مستميتةٍ لتفجير بالونته، عندها وقف مهاتير مستغرباً يقول: أنا لم أطلب من أحدٍ تفجير بالونة الآخر! ولو أنَّ كلَّ شخصٍ منكم وقف دون أن يتخذ مثل هذا القرار السلبي لنال الجميع الجوائز.
لا آتي بجديد حين أقول إنَّ جميعنا يطمح للتميز، ويسعى إلى التفوق، وكلنا يريد لفت النظر إلى جهوده وإخلاصه، ومحاولة إثبات أنه يستحق الأفضل والأكثر والأميز، وسواء أكان ما يبذله الواحد من جهود كافياً لتحقيق هذه النجاحات أو لا، فإنه في كلِّ الأحوال يتعقد أنَّ ما يبذله حقيقٌ بأن يبلغ به أعلى المنازل، ويُقرِّبه من أرفع المناصب، أما أولئك المحبطين اليائسين الذي لا يجاوز طموحهم أرنبات أنوفهم فهذا المقال لا يعنيهم.
غير أنَّ لدى البعض مفهوماً مختلفاً -أو قل متخلِّفاً فلا فرق- عن النجاح والتميز، إذ يظن أنَّ تفوقه يتعارض مع تفوق الآخرين، ويتوهَّم أنَّ تميزه لا يمكن أن يلتقي مع تميز غيره، ويعتقد -غباءً وحماقةً- أنَّ نجاحه يسير بخطٍّ موازٍ لنجاح أصحابه فلا يمكن أن يتقاطعا.
وبناءً على هذا المفهوم المريض فإنَّ صاحبنا يضطر إلى العمل في جبهتين؛ يحاول في الأولى التفوق والتميز وتحقيق النجاحات، وفي الثانية يحارب كلَّ مَن يسعى إلى النجاح، ويقاتل جميع مَن يبغي التميز، منطلقاً من أنه لا يمكن اجتماع أكثر من ناجح، ومعتمداً على أنَّ نجاح غيره يؤدي إلى فشله هو أو عدم اكتمال نجاحه على أقل تقدير.
إنه لمن المؤسف حقاً أن نجد أمثال هؤلاء المساكين يعيشون بيننا، نعرفهم أو نقابلهم أو نقرأ لهم، فلا نرى لهم هماً إلا محاربة الآخرين، وتثبيط عزائمهم، ومحاولة إيقافهم، والسعي إلى إفشال مشاريعهم، وعرقلة أي نجاح يمكن أن يحققوه، وكأنَّ معاداة النجاح عنده لا تتم إلا بأن يكون وحده في الساحة، وأنَّ إنجازه الحقيقي هو ألا يكون في القمة غيره، ومتى تحقَّق ذلك فقد تمت معادلة التفوق، واكتملت في نظره لذَّة الإنجاز.
إنَّ هذه الفئة المريضة لا يحلو لها النجاح إلا بمحاربة الآخرين، ولا يمكن أن تفكر في الاحتفال بإنجازاتها وتفرح بتفوقها إلا حين تطمئنُّ أنَّ البقية فشلوا، ولهذا فهم يرون أنَّ جزءاً كبيراً من جهودهم يجب أن يتوجَّه للمحاربة والإفشال والتحطيم والتثبيط والعرقلة، بوصف هذه الجهود من الأسس والأركان التي يقوم عليها النجاح، وبكونها شروطاً لازمةً لتحقيق التفوق والتميز، ولذلك لا يمكن أن تراهم راضين قانعين بما هم فيه من نجاح، ولا يمكن أن تصادفهم مرتاحين هانئين في دنياهم رغم ما يحققونه من تفوق وتميز.
إنَّ أمثال هؤلاء يحملون في صدورهم قلوباً سوداء، يملؤها الحسد، ويفيض منها الغل والحقد، ابتلاهم الله بهذه العُقَد النفسية التي حرمتهم الراحة والقناعة، وأطارتْ عن جفونهم النوم، لأنهم يحاولون تحقيق المستحيل فلا يستطيعون، ويقضون حياتهم بحثاً عن المجد والنجاح من خلال الاصطدام بالآخرين ومحاربتهم، وإذكاء العداوات، ويغرقون في وحول الغيبة والنميمة في محاولات يائسة بئيسة لإثبات أنهم الأفضل والأحق والأجدر.
لم يكن النجاح يوماً حِكْراً على أحد، ولم تكن أسباب التفوق والتميز والإبداع لحظةً خاصةً بشخص دون غيره، والقمة دائماً تتسع للجميع، ونجاح أحدٍ لا يقلل أبداً من نجاح آخر، والأبواب دائماً مفتوحةٌ للجميع للإبداع والتميز والابتكار، وليس هناك أيُّ معنى لأن يحتكر المرء ألف كرسي والجالسُ شخصٌ واحد! والجمال كلُّ الجمال في التعاون والتعاضد، والفرح بنجاحات الآخرين، وتهنئة كل المتفوقين والمتميزين، ففي هذا نجاحٌ للوطن وللمجتمع.