د. إبراهيم بن محمد الشتوي
كنت قد تحدثت في مقالة سابقة أن خلو لغة الكتابة من الاصطلاح يحول المادة المكتوبة، إلى مادة عامة، ويخرجها من دائرة اللغة العلمية، كما ينجيها من طائلة الإيديولوجيا والتصنيف.
وقد استعمل العلماء كلمة «الاصطلاح» على اللفظة التي تخرج من دائرة معناها اللغوي إلى معنى محدد، قد يكون ذا علاقة بمعناها اللغوي، وقد لا يكون، وإنما بالاعتماد على تقنية «النحت» الذي يعني نحت كلمة من كلمتين أو أكثر لتكون كلمة واحدة مثل كلمة «نيوم» التي نحتت من «نيو» بمعنى جديد، و»م» الحرف الأول من مستقبل.
هذا الاصطلاح يعني أن المعنى المحدد الجديد، الذي لا يرتبط بالمعنى اللغوي قد أصبح مرتبطا بهذه اللفظة، المذكورة، وهذا المعنى قد يكون واقعا، وقد يكون افتراضيا، وعندها يكتسب الوجود والأهمية، والنظر إليه مستقلا عما يشبهه أو يتداخل معه من المعاني.
ونستطيع مثلا أن نضرب مثلا بمصطلح «الخطاب»، فالخطاب من الناحية اللغوية معروفة، وهي الكلام الذي يقوله شخص ما يتوجه لشخص آخر، لكننا حين ننظر إلى الدراسات اللغوية، سنجد أن هذه الكلمة ترتبط بتحليل الخطاب اللغوي بالمقام الأول، ببعده الاجتماعي، أو يكون للكلام وظيفة اجتماعية. فهي تختلف عن مصطلح الجملة المربوط بمحددات معينة ليس منها البعد الاجتماعي، بمعنى أن الخطاب ينظر إلى الكلام في حالة كونه مستعملا في سياق ما.
هذا المعنى اللساني- إن صح التعبير- لم يكن موجودا قبل ظهور علم اللغة الاجتماعي، والاهتمام به عند تحليل الكلام، ولذا وجدناه يشيع في المناهج المختلفة المعنية بهذا الجانب.
في حين تجاوز «فوكو» هذا المعنى ليجعل «الخطاب» يركز على الأثر الاجتماعي الذي تمارسه اللغة في المجتمع، ويجعل هذا الأثر ناتجا عن المعرفة التي تتضمنها اللغة، وهنا تصبح دلالة الخطاب عنده تجمع بين اللغة, المعرفة، والقوة.
هذا المعنى الذي وقف عنده فوكو، وبنى نظريته عليه، لم يكن معنى مباشرا في النصوص التي وقف عندها، ولكنه معنى تأويلي افتراضي صرف، وقف عنده من الحالات التاريخية التي رصدها، وتتبع تفصيلاتها، ثم ربطها بالنتيجة التي آلت إليها الحالة بعد القول، فرأى أن وجها من وجوه هذه الحالة يتناسب مع وجه من وجوه القول، فربطه به، واعتمد عليه في أن يكون الأثر صحيحا بناء على إمكانية حدوثه، والنتيجة افتراضية، وأنشأ نظريته على ذلك.
وهي تمثل نوعا من القراءة للظاهرة الأدبية، التفسيرية مبنية على بعض المعطيات الموضوعية في النص المقروء، غير الملزمة، لكنها تفتح المجال أمام تطبيق هذه الفرضية على مواقع أخرى، للحصول على النتيجة نفسها، وهذا ما حدث بالفعل عند كثير من الحركات الأدبية والاجتماعية كالحركة النسوية على وجه الخصوص التي رأت في أفكار فوكو ورؤيته نحو الخطاب وسيلة ناجعة للدفع بالحركة النسوية ولخلخلة الموقف من النساء.
وقد كشف فيها عن قوة اللغة وتأثيرها، وطريقة استخدامها، لتوجيه المتلقي/الرأي العام نحو وجهة معينة، وقد سماه بـ «التحريض على الخطاب»، وحين ينشأ «الخطاب»، فإن الاستجابة ستكون حتمية.
وهذه الرؤية لم تصبح نظرية تحليلية لقراءة أثر أدبي، أو ظاهرة تاريخية، للكشف عن الأنساق المخبوءة، والمدفونة في داخل القول، التي تمثل وعي المتكلم وحسب، وإنما قامت عليها -أيضا- النظريات الإعلامية المهتمة بتوجيه الرأي العام، وصياغته نحو وجهة محددة.
وإذا عدنا مرة أخرى، وجدنا أن هذه النظرية التي أحدثت هذا الفرق في الدراسات النقدية، والإعلامية، لم تكن سوى أوهام، وظنون عند ميشيل فوكو، صاغها صياغة علمية، وبحث فيما يعزز هذه الأوهام، وأطلق عليها مصطلحا معروفا من قبل وهو «الخطاب»، وعززه ببعض المفاهيم النفسية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، من مثل «الكبت الجنسي»، و»اللذة»، و»المعرفة».
هذه النظرية وقفت عند ظواهر لم نكن لنقف عندها من قبل، كالنكات الموحية، والتلميحات الخفية، وما يجده الإنسان من مشاعر وظنون، ومعانٍ في النص، ليس بوصفها دلالة قطعية، وإنما بوصفها قوة تدفع المتلقي نحو غاية معينة. وأعاد الاعتبار إلى تلك المفاهيم السابقة بوصفها حقائق ثابتة ذات وجود مستقل، قادرة على التأثير والفعل بمعزل عن جنس القول المربوطة به، وهو ما تعارف على تسميته بالأدب، الأمر الذي أدى بعد ذلك إلى جعل أنواع الكلام بمرتبة واحدة في التأثير في المتلقي، وفي القيمة، ومن ثم حولها إلى مادة جيدة للدراسة، والتحليل، بل ربما تفوق المادة الأصلية بقدرتها على تحمل مضمرات الشعوب، مما قد لا تحمله الخطابات الرسمية.
وحين وصلت هذه المرحلة أصبح تطبيقها أمرا ممكنا في سياقات أخرى الأمر الذي حولها نظرية علمية ثابتة، وحول الكلام المعتمد عليها كلاما علميا كما أشير في الأمثلة السالفة.