سهام القحطاني
لماذا عجز ممثلو العقل العربي عن تأصيل رائد لصناعة عقل فلسفي مستقل الخصوصية؟
والإجابة عن السؤال السابق تتضمن عدة معوّقات منها:
1- كما قلت في الموضوع السابق إن بنية أي عقل فلسفي غالبًا ما تتأسس على
«السؤال الشكي، والإجابة الجدلية متعددة الرؤى والاعتقادات» بمعنى أن اليقين والصدقية «قواعد الثبات» لا محل لهما في محتوى العقل الفلسفي.
وهذه القاعدة الذهبية الذي ينبني في ضوئها العقل الفلسفي لا يمكن تطبيق إجراءاتها على كليات الفكر الديني الذي يمثل الهوية الفكرية للعرب سواء المسلمون أو المسيحيون؛ باعتبار تلك الكليات مكتملة الدلالة، مما ضيّق اختبارات تطبيقات إجراءات الفكر الفلسفي، وقبل ذلك اختيارات المجال الشكي التي تعتمد عليها استراتيجيات البحث الفلسفي.
كما أن الفكر الفلسفي ينطلق من مبدأ «لا يقين» قائم بالتقادم، لا مثبت قائم بالتعود والتعارف، لا مطلق قائم بتأثير غيبي.
وتلك المنطلقات قد يراها البعض مُعادِلات مُؤكدة «للإلحاد»، والشك الفوضوي.
وهذان المعادِلان اللذان يمثلان في توصيفهما العام «الشك الفوضوي و الإلحاد» هما من عطل تأصيل الفكر الفلسفي العربي في العصر الحديث؛ لأن الحقائق الكبرى التي تؤسس الجدلية الفلسفية واضحة المعالم في النص الديني، وهو وضوح كما يعتبره أعداء الفلسفة ينفي الحاجة إلى ضرورة السؤال الشكي هذا من جانب.
ومن جانب آخر وهو الأهم حسبما أعتقد شدة القيود الدينية التي أحاطت بالأفكار الدينية التي أحاط بها الغموض الوجودي والذي كان يمكن أن يمثل تفكيكها إثراء للجدلية الفلسفية للفكر العربي؛ إلا أن تحويل تلك الأفكار إلى مقدّس أعاق استلامها كجدلية بحثية.
وقبل الانتقال من هذه المسألة لا بد من توضيح نقطة مهمة وهي أن «متلازمة الشك والإلحاد بالفلسفة هي «متلازمة غير صحيحة في مجملها» وإن طغت دلالتا الشك والإلحاد على معظم الجدلية الفلسفية، فهو طغيان لا يُشرع حتمية تلك التلازمية وجعلها التوصيف القطعي لماهية الفلسفة.
وقد استطاع قدماء الفلاسفة المسلمين من تجاوز الوقوع في فخ هذا التوصيف؛ عندما استبدلوا الشك بالاختلاف، والإلحاد بتجديد «مؤسسات التفسير» وربطها بالتطور الوجودي للأشياء.
وإن لم يستطيعوا على مستوى الفهم الشعبي من تجنب الوقوع في فخ المساءلة والعقاب.
إذن كان بإمكان من يمثل العقل العربي في العصر الحديث أن يبحث عن مؤسسات للجدلية الفلسفية بعيداً عن فوضى الشك وفخ الإلحاد.
2- فقر العقل الفلسفي التراثي لأساسيات بنية الفلسفة، من يقرأ كتب الفلاسفة المسلمين سيجد أن تلك الكتب هي تطبيقات فلسفية للمسائل الاختلافية في النص الديني، وبذلك فالإضافة هنا هي «توسيع الزي الفلسفي» وليست صناعة بنية فلسفية جديدة ذات هوية عربية أو إسلامية خاصة.
وهي إضافة لم يجد فيها مفكرو العرب عند عودتهم للعقل الفلسفي التراثي ما يساعدهم في تأسيس عقل فلسفي عربي معاصر، مما دفعت توجهات جهودهم للالتفاف نحو محورين في هذا المقام.
المحور الأول «شرح التفسيرات الفلسفية» لفلاسفة المسلمين، والمحور الثاني «تقديم منظومات تبريرية لطبيعة تلك التفسيرات الفلسفية»، والمحوران يدوران في مجملهما في مجال التحليل الإحصائي التاريخي في بعديه الكمي والنوعي.
وهو مجال لم يرق لتشكيل بنية فلسفية ولم يستطع بالتالي تأسيس تلك البنية.
ولعل أنجح التجارب التي حاولت تقديم «مقرر فلسفي» عربي كان الدكتور زكي نجيب محمود، وإن كانت تجربته تحليلية أكثر من كونها جدلية، كما أن عدم قدرته من التخلص من نزعته الأدبية حوّلت تلك التجربة من «فلسفة صرفة» إلى «أدب متفلسف» على غرار ابن الطفيل والتوحيدي، حتى يجذب الفهم الشعبي للمضمون الفلسفي.
3- التوصيف الشائع للفلسفة، ارتبط الفكر الفلسفي في تاريخ الثقافي للعرب بصفة «الزندقة» وهو بهذه الصفة أصبح معادلاً للكفر، وذلكم توصيف بإجراءاته المختلفة كان حاصل الموقف الديني من علم الكلام عامة والفلسفة خاصة، وهو ما يُفسر لنا سبب «نكبة الفلاسفة» في عصور الخلافة الإسلامية.
وهذا الموقف الديني من العقل الفلسفي شّكل موقف الذهنية الشعبية العربية والإسلامية من الفلسفة، إذ يعتبرها الكثير من المسلمين حتى اليوم علما معززا للإلحاد والكفر، هذا الموقف الذي أفقد العقل الفلسفي التواجد الجماهيري أسوة بالشعر ثم الرواية فيما بعد، إضافة إلى طبيعة عقل الذهنية الشعبية العربية التي تعوّدت في أدبياتها على الإجمالية الفكرية والحماسة الوجدانية، ومع ظهور الرواية مالت تلك الذهنية إلى الواقعية التي تجد فيها تلك الذهنية تنفيسا عن ضغوط الحياة.
أما الفلسفة فهي تعتمد على تدقيق التفاصيل وإعادة تدوير الدلالات وهذه الاستراتيجية لا تحتوي على ما يجذب الذهنية الجماهيرية؛ أي الحماسة الوجدانية كما في الشعر أو الاندماج مع واقع تلك الذهنية كما في الرواية.
ولم تكن الندرة الجماهيرية على مستوى الذهنية الشعبية، بل أيضا ومستوى الذهنية النخبوية التي فضلت العقل الفكري على العقل الفلسفي، باعتبار شمولية مجالاته وتعدد نظرياته وإمكانية استحداث تطبيقاته ونماذجه، وبذلك نجد أنفسنا أمام فقر في الكوادر البشرية الممثلة للعقل الفلسفي سواء على مستوى فاعل الإنشاء أم فاعل التطبيق، أو لنقل هو عزوف مقصود من قِبل ممثلي العقل العربي عن الفلسفة وهو ما أعاق تأسيس عقل فلسفي عربي في العصر الحديث.
أما لماذا عرف ممثلو العقل العربي عن الفلسفة فلاشك أن ثمة أمورا وراء ذلك العزوف منها.
* قلة الخبرة الفلسفية سواء التاريخية أو التي كانت قيد الواقع الراهن في تلك الفترة.
* انشغال ممثلي العقل العربي بالأدب وفنونه، إذ كان صوت الثورة في ذلك الوقت.
* الأحوال السياسية للمجتمعات العربية التي غلبت على اهتمام ممثلي العقل العربي.
* وبعد الحرب العالمية الثانية انشغل ذلك العقل بأدبيات القومية وبعد النكسة انشغل بالرواية والقصة والنظريات الشعرية الحديثة التي جذبت الأجيال الجديدة من ممثلي العقل العربي وأنشأت ميادين كثيرة للصراعات الأدبية على طول وعرض الوطن العربي.
وأهم نقطة هاهنا هي المُعادِل الذي استبدله ممثلو العقل العربي لبنية الفلسفة وهو «النظريات الفكرية والنقدية» التي وجد من خلالها العقل العربي تعويضا مقبولا لعجزه الفلسفي.
خاصة بعد خضوع الفلسفة «للخصخصة المعرفية» تلك الخصخصة التي فككت الشمولية المعرفية للفلسفة، فظهرت لدينا الفلسفات المتخصصة في مجال النقد والاجتماع والتاريخ والتربية والاتصال والعقل والسياسة وغيرها من المجالات التي قرّبت الفلسفة التخصصية إلى الفكر أكثر من المنطق، فكانت بمثابة تجربة فلسفية رغم زيها الفكري قدمت تعويضا إجرائيا للرئيس الغائب.
ولكن حتى في هذا المجال «المجال الفكري» لم ينجح العقل العربي في صناعة نظرية معرفية تحمل التوقيع العربي، فظل ممثلو ذلك العقل حتى اليوم يدرون في فلك الترجمة تارة والتقليد تارة، والاستيراد بالتصرف تارة ثالثة.