د.عبدالله الغذامي
لم تكن كلمة (الحوار) من المفردات البارزة في الثقافات التقليدية، وفي تلك الثقافات يشيع التصور أن الأكبر والأقوى هو الأحكم، ومنها عبارات (الشيوخ أبخص) والمثل الشائع (أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة)، مع التمييز المسلم به ضد النساء والأطفال بوصفهم من القاصرين المحتاجين للرعاية والوصاية. ثم جاءت كلمة (الحوار) من بعد انتشار التعليم وتوسع مجالات الثقافة والمعرفة، وكان ذلك عبارة عن ثورة داخل مؤسسة العائلة حين تكشف أن البنات والأولاد صاروا يعرفون أكثر من والديهم، في مجالات العلم والتخصص ومجالات الثقافة العامة ومجالات إتقان التعامل مع الوسائل التكنولوجية، وهنا نشأ حس بأن الرأي ومعه القرار هما مسألتان تفاوضيتان ولم يعودا محصورين في الآباء رعاة البيت وسادته، وهنا جاءت كلمة (الحوار) لتكون عنوانًا مطلوبًا في نظام العلاقات العامة في العائلة الصغرى، وفي العائلة الكبرى (أي الدولة)، ومضى العرف العام بدعوى الرغبة في الحوار، ولكن الذي يحدث أن الأطراف المتحاورة صارت تجنح لجعل الحوار أسلوبًا للإقناع، وبما أنه كذلك فإن الأقوى هنا هو الأقدر على توجيه الرأي بحيث ينتهي الحوار بفرض رأي أحد الأطراف، أي أن الحوار تحول مرة أخرى ليكون وصاية أو نظامًا ناعمًا في القمع تحت مسمى جديد.
و(الأبخص) قديمًا سيكون الأبخص حديثًا لأنه الأقدر معنويًا أو ماديًا، ويملك سلطة تجعله سيد الموقف، وذلك بتجيير الحوار تحت معنى الإقناع، أي القمع الناعم كبديل للقمع المعلن، وهنا تحتال الثقافة النسقية لنفسها بتمديد قوتها التحكمية لتغير عنوان الخطاب فتصبح كلمة الحوار غطاء قمعيًا بدل أن تكون تبادلاً لوجهات النظر، والأصل في الحوار أن يسعى لأن يفهم كل طرف الطرف الآخر ومن ثم يتعامل معه بوصفه كائنًا يملك رؤية مختلفة، ولكن النسقية الثقافية سوف تحول معنى الحوار إلى دعوى الإقناع كمحاولة تسلطية. وهذا أمر تدفع له الرغبات المضمرة التي تصر على أن تعيد المختلف إلى جادة الصواب الأبوي الفحولي تحت مظلة كلمة تمت سرقتها وتجيير دلالتها لمصلحة النسق المستبد عبر تحويل الحوار إلى مشروع إقناع، مع تبكيت غير المقتنع.