تكثر في المجتمعات التي تعيش تغيرات وتقلبات سياسية واقتصادية واجتماعية ظاهرة تستحق التأمل والدراسة، أسميتها ظاهرة الفراشات – ولا أعلم إذا قد سبقني إلى هذه التسمية أحد فلا أدعي الأسبقية فيها-.
الظاهرة أساسها العلمي مُثبت ولا غبار عليه، فالفراشات تحترق وهي تهرول متجهة نحو النار! هذه الفراشات لا تملك الوعي الكامل بكل ما يحيط بها، فهي تفتقد للعلم والمعرفة وحتى وزن الأمور ووضعها في نصابها؛ فتجدها تارةً تطير نحو نور جديد شعّ في جهة ما وقبل أن تصل إليه يظهر نور أشدّ إشعاعًا فتهرول نحوه تاركةً ما كانت تصبو إليه. وهكذا تمضي حياتها لا تملك رؤية ولا قرار فقد يبهرها نور فتيمم نحوه دون إدراك بحقيقة أن هذا النور الساطع قد يكون نار تحرقها.
هذه الظاهرة تنتشر في وطننا العربي حيث الجهل هو الأساس والإنصاف وطلب المعرفة لا وجود لهما إلا في حدود ضيقة. فمن السهل أن تجد الشعوب العربية تغير معتقدها ورؤيتها حول أمرٍ ما وتعتنق أمرا مستجدا عليها لمجرد أنه أصبح أكثر سطوعًا!
لم تعد القضايا الفكرية والسياسية والاقتصادية التي تمر بالوطن العربي تحمل استقلالية رأي ولا وجود للحرية في التعاطي معها، بل قد تنعدم الرغبة في المعرفة وتأسيس رأي مستقل بعيد عن موروث يشلّ الفكر ويصادره وبعيد عن ضغط إعلامي يصم الأذان ويُعمي الأبصار ويجعل العقول في حيرةٍ من أمرها لافتقادها حرية الرأي تارة وتمكّن الجهل منها تارة أخرى فمن كان مع أصبح ضد ومن كان ضد أصبح مع!
والأدهى والأمرّ من هذا وذاك أن الكثير من الشعوب كأفراد وجماعات –الفراشات- أصبحت تهرول نحو قضية ما وتترك معتقداتها الفكرية السابقة لمجرد سطوع ضوء جديد!
الجهل أصبح يقودهم دون رؤية مستقلة ودون حتى امتلاكهم لعلم يجعلهم يسعون إلى الحقيقة ويتوقفون عندها قبل إنصافها بل حتى قبل اعتناقها كفكرة ومبدأ في الأساس. ومما لا شك فيه أن القضايا الفكرية تأتي في مقدمة القضايا التي تنتشر فيها الظاهرة؛ فكثير من الشعوب جماعات وأفراد لا تملك العلم ولا المعرفة في كثير من القضايا الفكرية ورغم ذلك تجدها من أسهل الشعوب انحرافات وانجرافات فكرية وعدم ثبات في مبدأ ما وذلك لأن المُحرك لها هو الجهل بمعظم القضايا الفكرية التي يخوضون فيها، والأمر الآخر هو التأثير الإعلامي القوي الذي يجعلهم مسلوبيّ القرار ويؤثر على مواقفهم بالسلب والإيجاب حول قضيةٍ ما تمر بها الأمة.
** **
- د. أحمد بن محمد الجلعود