أثرت النكبة الفلسطينية على الحياة العامة بشكل عام، وعلى الحياة الأدبية بشكل خاص، فلوحظ ذلك في نتاجهم الشعري والنثري، مما أدى إلى زيادة في النتاج الفلسطيني، وإقبال الكثير عليه، تضامنًا ودفاعًا وتحقيقًا للوحدة الفلسطينية الإسلامية، وصدًا للعدو الصهيوني، فظهر الأدب الفلسطيني مدافعًا عن الأرض والمكان، قاطعًا يد العدو من أن تصل إلى أي من ممتلكاته، مشيرين في أدبهم إلى المدن والأماكن المشهورة لديهم محفوفة بذكريات لهم قبل ترحيلهم ونفيهم، كما في هذا نص «رأيت رام الله» الذي حمل معه الرائحة الفلسطينية الطيبة، والذكريات المحفوفة بحلاوة العيش وجماله، في مساكنهم البسيطة، وأرضهم الريفية الندية الخضرة، وسفوح جبالهم الشاهقة، وممرات شوارعهم الطويلة التي تحمل بين جنباتها روائح الأطعمة الزكية، فقد صور لنا كل هذا الشاعر: مريد البرغوثي، الذي نُفي من بلاده بعد عودته من دراسته.
وبعد وطأة الحرب التي حدثت والنفي المفاجئ لبعض الفلسطينيين، الذين كان من بينهم مريد، ابتدأت رحلته التنقلية بين المدن، حتى ثلاثين عامًا من المأساة والغربة والآلام، ليخرج بولادة جديدة بعد عودته إلى رام الله بهذا الجنس الأدبي.
إن المكان هو المحيط والجزء من هذا العالم الذي يعيش عليه الإنسان منذ ولادته وحتى نهاية حياته، فهو التعبير الأمثل للوطن والأرض المتأصل في كل كائن على وجه هذه الحياة.
ارتبط الزمان بالمكان لدى مريد، فاختار أن يكون الزمان والمكان ذا علاقة واحدة، فأتى بجملة من الأماكن التي صور الزمان والمكان فيهما بشكل متحد، فيقول: «أماكننا المشتهاة ليست إلا أوقاتًا». فهو ينظر إلى كل مكان يطؤه أنه زمان، فعندما عبر مريد «الجسر» كان المكان الافتتاحي لبداية التنقل الأول، حفرت قدماه عليه ثلاثين عامًا من الغربة، وآلافًا من الذكريات التي كان يصحبها في ذاكرته وقلبه، مرورًا بالتساؤلات المحيرة التي تختلج في داخله، عن هذا الجسر، وما هيته؟، وكيف استطاع أن يحمل كل هذه الأمة على ظهره المهترئ؟، ذاهبًا بهم إلى الشتات والغربة والضياع، واصلًا بهم إلى غرف الانتظار الطويلة، التي ما إن يدلف إليها أحدهم حتى يسقط في دوامات من الشرود والذكريات، كما يقول مريد وقت انتظاره بعد أن عبر الجسر المؤدي إلى رام الله: «في هذه الغرفة وجدتني أنسحب إلى هناك إلى البقعة المتوارية في كل شخص، بقعة الصمت والانطواء، فراغ غامق اللون يخص المرء ولا يعني أحدًا غيره. ألوذ به عندما يصبح الخارج عبثيًا وغير مفهوم، كأن هناك ستارة سرية تحت تصرفي، أشدها عند الحاجة، فأحجب العالم الخارجي عن عالمي»، وفي ذلك ازدواج مكاني حيث جعل المكان المحيط به على رغم حجمه، كالفراغ وكأن هناك ستارة يتحكم بها تحجب عنه هذا العالم.
وعلى الرغم من أن هذا الجسر هو محطة العودة والغربة لدى مريد، فكما ذكر أن الغربة بالنسبة له هي الوضوح والعودة هي الغموض، لعل ذلك راجع إلى أن الغربة التي عاشها أوضحت له معالم الحياة عن طريق تأملاته، بينما العودة كانت له كالحلم الذي يتمنى تحققه فهو في حالة عدم استقرار.
فمن خلال ذلك الجسر بدأت رحلة النفي ومنه بدأت رحلة العودة، فكان هو طريق اللقاء الأول ولَمّ الشمل العائلي، ورؤية الأصدقاء، والمدن بعد تغيرها وتحولها إلى دمار، وبعضها إلى بنيان يستوطنه العدو ويجعله كمعسكر تدريبي، أو مركز لفرض الأوامر، أو سجون للفلسطينيين المقاومين.
إن الأماكن الأكثر قابلية للتذكر هي الأماكن المؤقتة، أو الأماكن «البوليفونية: وهو المكان الذي يوجد منها أجزاء مبعثرة في العمل الفني»، وقد أتت بكثرة لدى مريد، وأشهرها الفنادق، لتنقله الدائم بين القاهرة ورام الله وغيرها من المدن التي يعيش فيها أهله.
«الفندق» هو الغربة القصيرة التي ستحولك إلى غربات أخرى مؤقتة غيره، يبدأ مريد بوضع أمتعته في حقيبته ثم ما يلبث أن يصل إلى وجهته المحددة حتى يسلم مفاتيح الشقة المستأجرة، ليبدأ برحلة أخرى نحو شتات آخر، ورغم ذلك أحب مريد تلك الفكرة، نعني فكرة الفنادق فيقول فيها: «الفندق يعطيك شيئًا من نكهة الخلودات المؤقتة، تستلم رسائل الأصدقاء كلما عدت من مشوار قصير. إنه يكون لك على الفور مجتمعًا صغيرًا من أصدقاء المدينة الجديدة التي وصلت إليها للتو. شبه عائلة من الذين يهتمون بأمرك لبضعة أيام أو لبضع ساعات في اليوم».
وبناء على ما جاء به، فإنه قد يكون مريد البرغوثي قد أحب شيئًا من هذه الغربة لأول مرة، راجع إلى أن المرء رغم آلامه التي يعيش بها، إلا أنه يستطيع التكيف مع من حوله من البشر،
فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي وقد ولد على ذلك، غير أن مشاركة الهموم الواحدة تخفف وطأة الوجع وتدمل بعضًا من جراحه، كما أن المرء إذا كان في مكان غير مستقر، فهو أدعى لاسترجاع ذكرياته بصورة فجائية توقظه من غفلة المجتمع الجديد الذي يعيش فيه، فتراه فجأة يسلو مع أصحابه، ثم تهيم به الذكرى لمكان معين، يتكئ على ظله الممتد إليه، فيسترجع تلك الذكرى
وكأنها ماثلة أمامه باللحظات، والأشخاص، والأحداث، وحتى الأصوات، فيميزها حتى رغم بعده وغيابه.
حينما يحمل المرء معه جزءًا من حياته بين الماضي والحاضر والمستقبل، جاءت «حقيبة السفر» لدى مريد بهيئة المكان المتنقل والشامل في جميع سيرته، يحملها معه أينما رحل فكأنه يأخذ معه شيئًا من ماضيه فيها، فهو عندما نفي أخذها قاصدًا الجسر ومنها إلى الأردن ثم بعدها إلى وجهات عديدة جمعت له جميع الأزمان والأماكن في وقت واحد وهي معه، فكأن تلك الحقيبة اختصرت مسافات طويلة وسنوات عديدة قضاها مريد البرغوثي في حياته، وكأنها هي من قامت بفعل التنقل والعبور والعودة، حاملًا بداخلها كمًا من المشاعر والكتابات التي لم ينشر فيه ماضية، ولكن ما إن عاد إلى بلدته واستقر حاله حتى أصدر سيرته منها، فكانت صلة بين غربته وعودته، واستقراره ونفيه، فعندما يقول: «أسمع طقطقة الخشب تحت قدمي. على كتفي حقيبة صغيرة»، من هنا كانت بداية الماضي في الخطوة الأولى التي خطاها نحوه في الجسر ومعه حقيبته.
بينما عندما قال: «حقيبتي كبيرة هذه المرة، فيها ملابس من سيقيم إقامة دائمة لا ملابس الزائر لفترة أسبوعين»، كانت تلك الكلمات عندما أتى الدار البيضاء بعد دعوة من الأمانة العامة لاتحاد الأدباء، وكان ذلك بعد أن سمحوا له بالعودة إلى مصر.
ويأتي بعد وقت طويل ليكتب في نهاية سيرته مدللًا على استقراره مع عائلته: «أهيئ حقيبتي الصغيرة استعدادًا للعودة إلى الجسر، إلى عمان فالقاهرة، ثم إلى المغرب حيث سأقرأ شعرًا في أمسية بالرباط. أقضي في الرباط أقل من أسبوع. ثم إلى القاهرة لأعود وبصحبتي رضوى وتميم لقضاء الصيف مع أمي في عمان»، مشيرًا هنا إلى لَمّ شمل أسرته الصغيرة، على مدى مستقبل بعيد.
«المخدة سجل حياتنا. المسودة الأولية لروايتنا التي كل مساء جديد، نكتبها بلا حبر ونحكيها بلا صوت. ولا يسمع بها أحد إلا نحن. هي حقل الذاكرة، الذي تم نبشه وحرثه وتثنيته، وعزقه، وتخصيبه، وريِّهُ في الظلام الذي يخصنا».
«الوسادة / المخدة» كما سماها مريد، هي النتيجة النهائية لتلك الغربة، أو هي المحطة الأخيرة لغربته الطويلة، انهمرت عليه نفسه اللوامة فأخذت تعاتبه وتلومه، هي سجل الذكريات الحافل بالآلام المتراكمة المخرجة على شاكلة دموع ليلية، هي في نظره يوم القيامة الشخصي لكل من لا يزال حيًا، هي من تشعرك بأنك على هذا العالم وما زلت تتنفس هواءه، هي من تأخذ حقك ممن استبدك واضطهدك دون أن يكون بينكما لقاء، هي استرجاع للذكريات الساكنة في قُعر الذاكرة، هي لملمات الصباحات والليالي ذات الضحك، ذات الغضب، ذات الدموع، ذات العبث، وذات الشواهد الرخامية، التي لا يكفي عمر واحد لزيارتها جميعًا، من أجل تقديم الصمت والاحترام.
وينتهي كل ذلك بسؤال أخير: ما الذي يسلب الروح ألوانها؟
ما الذي غير قصف الغزاة، أصاب الجسد؟
جميع تلك التساؤلات والإجابات والذكريات، تحت وسادة قطنية ناعمة الملمس، جعلت لمريد نظرة ثاقبة، وتصورات جديدة للحياة، وضميرًا حيًا ناتجًا عن تجربة شعورية عميقة، وشاعرًا محللًا، ومصورًا دقيقًا في كل مكان يرتبط به، كل هذا ما كان إلا لأنه عاش في خضم معاناة تفجرت على إثرها كمية من مشاعر الحنين والقهر والاضطهاد، مقاومًا ذلك بالرفض للاحتلال والنصرة لوطنه بشعره ونثره.
** **
- فاطمة الورافي
@Fatemh3AW