صدر عن المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء كتاب «النفط بين إرث التاريخ وتحديات القرن الحادي والعشرين»، للدكتور ماجد المنيف أستاذ الاقتصاد في جامعة الملك سعود والأمين العام للمجلس الاقتصادي الأعلى سابقاً ومحافظ السعودية لدى منظمة أوبك حتى عام 2013م. ويغطي الكتاب الذي يقع في 670 صفحة خلفيات وخصائص النفط وبنية صناعته وطبيعة العلاقات بينه وبين الغاز الطبيعي أو بينه من جهة وبين الطاقة والاقتصاد والسياسة والبيئة من جهة أخرى بما في ذلك دوره «كسلعة إستراتيجية» والأطر التي تحكم كل ذلك. ويشمل الكتاب حصاداً لعلاقات النفط في القرن العشرين وتداعياتها حتى الآن، والتحديات التي تواجه صناعته ومنتجيه في العقود المقبلة من القرن الحادي والعشرين.
ونظراً لمركزية منطقة الخليج العربي، في علاقات النفط العالمية وتأثر علاقاته بالأوضاع الجيوسياسية وتأثيره عليها، تعرض الكتاب لكيفية تشكل امتيازات النفط في المنطقة وتأثيرها على موقعها في ميزان العرض العالمي من النفط وفي تشكيل تاريخها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي خلال القرن.
وتشمل فصول الكتاب تحليلاً لهيكل وتنظيم السوق النفطية منذ بزوغ القرن بدءًا بدور الشركات العالمية في تنظيم السوق وتفاعل العوامل الفنية والاقتصادية والسياسية في تلك الهيكلة والتنظيم، مرورًا بدور أوبك والآليات التي اتبعتها ونجاحاتها وإخفاقاتها في إدارة دفة السوق، ومحددات تشكيل أسعار النفط في الوقت الراهن.
ويستعرض الكتاب دور شركات النفط الوطنية في تطوير صناعته وفي المساهمة في مشروع التنمية الوطنية في دولها، وعرضاً لتجارب بعض تلك الشركات (منها أرامكو السعودية)، وعوامل نجاحها.
ويشير إلى نقاط قوة تلك الشركات منها العمل على أسس تجارية والمساهمة في المشروع الوطني لدولها ونقاط ضعف تختلف درجاتها فيما بينها باختلاف ظروف نشأتها وعلاقتها بحكومتها المالكة لها وثقافة العمل فيها.
ويشير الكتاب إلى أنه نظراً لتغير دور النفط والغاز في ميزان الطاقة العالمي وتغير هياكل أسواقه وصناعته، فإن ذلك سينعكس على الدول وشركاتها الوطنية عاجلاً أو آجلاً مما سيجعل العديد منها يراجع الإستراتيجيات والسياسات للتعامل مع المتغيرات والتحديات.
ويستعرض الكتاب أيضاً الدور الذي قام به صناعيون وسياسيون ومغامرون واقتصاديون وتكنوقراط وإعلاميون خلال القرن العشرين في تشكيل تاريخه وإحداث تغيير جوهري في علاقاته على مستوى العالم، وذلك في زمن كان للفرد دور كبير في التأثير على مجرى تلك العلاقات ليصبح النفط على ما هو عليه اليوم من وهج واهتمام لم تنله سلعة أخرى في العالم.
ويتناول الكتاب قضايا وتحديات وفرصاً للنفط في العقود المقبلة منطلقاً من توقعات الطلب والعرض منه حتى عام 2040، حيث يلاحظ قصوراً وحدوداً وأحياناً تحيزاً في تلك التوقعات، ولكنه يخلص إلى أن هناك توافقاً عاماً بأن معدلات نمو الطلب على النفط في العالم ستكون أقل من تلك المسجلة في العقود الأربعة الماضية بسبب تحسن كفاءة الاستخدام والتزامات مواجهة التغير المناخي وزيادة حصة الطاقات المتجددة في مزيج الطاقة وحصة المركبات الكهربائية بأنواعها في قطاع النقل، وأن الانحسار في نمو طلب الدول الصناعية الذي ابتدأ في الانخفاض منذ عام 2005 سيستمر للعقود المقبلة، وأن طلب الدول النامية سيستحوذ على جلّ الزيادة الصافية في الطلب العالمي، وأن قطاعي النقل والبتروكيماويات سيستحوذان على الحصة الأكبر من ذلك النمو.
أما في جانب العرض، فيشير إلى أن حصة النفط التقليدي في الإنتاج العالمي ستتجه إلى الانخفاض التدريجي، خصوصاً من خارج أوبك، وسيعوضها الزيادة في إنتاج النفط غير التقليدي من رمال الزيت والنفط الصخري وغيرها، وأن تكلفة ذلك ستزداد عبر الزمن بسبب نضوب الحقول التقليدية وتوقع ارتفاع تكلفة النفط غير التقليدي على المدى الزمني الأطول، وأن المحافظة على الطاقات الإنتاجية القائمة أو الحد من انخفاضها أو زيادتها أو تطوير المصادر غير التقليدية يتطلب استثمارات تقدر بتريليونات الدولارات خلال العقدين المقبلين، مما يتطلب بيئة استثمار ملائمة وحالة استقرار في الأسواق تبرر تلك الاستثمارات.
ويناقش الكتاب مقولتي وصول إنتاج النفط أو الطلب عليه إلى ذروتيهما في العالم، حيث يشير إلى أن توقيت ذروة الإنتاج عالمياً يعتمد على تحقق افتراضات عدة، منوهاً بأن التقدم التقني والأسعار قد أضافا إلى قاعدة الموارد وجعلا الاستثمار في النفط غير التقليدي مجدياً وأبعدا من توقيت تلك الذروة.
أما الوصول إلى ذروة الطلب على النفط فإنه وإن انطلق من المكاسب في كفاءة استهلاكه ومن تطوير الطاقات المتجددة والمركبات الكهربائية، إلا أن النمو المتباطئ في الطلب العالمي من المرجح أن يصل إلى الذروة خلال العقود الثلاثة المقبلة نتيجة تطوير الطاقات ورواجها وتحسن جدواها بدعم حكومي.
ويشير الكتاب إلى أن التطور التقني الأهم الذي سيؤثر على مستقبل النفط هو ذاك الذي يجري في قطاع النقل من خلال تطوير ورواج السيارة الكهربائية وتغير أنماط التنقل باستخدام التطبيقات الذكية (وخدمة أوبر أحدها)، فالسيارات الهجينة أو المسيّرة بالبطارية القابلة للشحن تلقى رواجاً ودعماً حكومياً غير مسبوق، وهذا مرشح للاستمرار في القرن الحادي والعشرين على الرغم من التحديات التقنية والاقتصادية والسلوكية التي تواجه تطوير وانتشار وتكلفة اقتناء واستخدام تلك السيارات.
وستكون درجة استجابة صناعة النفط ومنتجيه ومرونة وكفاءة أسواقه في التعامل مع التحديات محدداً مهماً في القدرة على مواجهتها، ويشير سجل الصناعة إلى قدرتها على التكيف مع معظم التحديات البيئية والفنية والسياسية التي واجهتها طوال تاريخها، وإن كان تكيف حكومات الدول المنتجة أكثر بطئاً وإيلاماً. أما الأسواق فإنها وإن عانت طوال تاريخها من تقلبات بسبب هيكلة السوق وأدوات إدارته، إلا أنها تكيفت أيضاً مع التغيرات السياسية والاقتصادية والتقنية.
وفي ظل تلك التوقعات والتحديات يتناول الكتاب مستقبل هياكل وآليات سوق النفط في العقود المقبلة من القرن الحادي والعشرين متعرضاً لمستقبل دور أوبك وآليات التسعير في ظل ظروف العرض والطلب المتغيرة، حيث يستنتج بأن سوق النفط في القرن الحادي والعشرين يتسم بأنه أقل تركزاً من حيث اللاعبين فيه من منتجين؛ دولاً وشركات، ومستهلكين؛ دولاً وقطاعات، ودخول لاعبين جدد في أسواق المال والسلع تؤثر توقعاتهم وخياراتهم على أسواق النفط الآجلة والمستقبلية والفورية وعلى خيارات ومجال تأثير منتجي ومستهلكي النفط. وهذا الوضع يحد من قدرة أي لاعب سواء دولة واحدة أو مجموعة دول كأوبك التأثير بفعالية على مجرياته. ولكن على الرغم من ذلك يبقى سوق النفط مجالاً لتفاعل الاقتصاد مع السياسة وإن كان ذلك بأدوات تختلف عما كانت عليه خلال القرن الماضي.
ومنذ تصدر النفط الاستهلاك العالمي من الطاقة منذ العقد السادس من القرن العشرين حتى الآن، تعرض المركز النسبي له للتغير مع التحولات في منظومات كل من الاقتصاد والسياسة والطاقة والبيئة من جانب والنفط من جانب آخر، فقد كانت علاقة النفط بالسياسة الأعقد والأكثر حضوراً طوال تاريخه نظراً لاعتبار النفط سلعة إستراتيجية وإدخاله طرفاً في صراع القوى العظمى لتأمين واستقرار الإمدادات منه، والخلاف بين حكومات الدول المنتجة والشركات صاحبة امتيازات النفط في أراضيها حول السيادة على الموارد.
ومع أن حكومات الدول المنتجة ممثلة بأوبك سيطرت لفترة وجيزة على مجريات السوق، إلا أن ذلك أوجد ردود فعل وسياسات وإجراءات لترشيد استهلاك وتنويع إمدادات النفط لتحقيق شعار ما أصبح يعرف بأمن الطاقة، ومنها بناء مخزونات نفط إستراتيجية، والاهتمام بأمن الممرات المائية التي يعبر منها النفط إلى الأسواق وغيرها، ومع أن استهلاك النفط ارتبط بالنمو الاقتصادي والحضري وأثرت ظروف إنتاجه وتسويقه وتسعيره على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مناطق إنتاجه، إلا أن تلك العلاقات تغيّرت عبر الزمن بتغير مركز ثقل الاستهلاك من الدول الصناعية إلى الدول النامية خصوصاً في آسيا.
كما أن علاقة النفط بالبيئة قد تطورت هي الأخرى مع الاهتمام العالمي بالتغير المناخي والتوصل إلى اتفاقات دولية تسعى للتعامل معه بالحد من حرق الوقود الأحفوري والنفط أحدها، الأمر الذي سيؤدي إلى الحد من نمو استهلاك النفط أو حتى خفضه اعتماداً على السياسات التي يمكن اتخاذها خلال العقود المقبلة.
أما هيكل السوق فقد تعرض هو أيضاً لتغيرات انتهت بهيكل تتفاعل فيه عوامل العرض والطلب في السوق الفعلية مع سوق النفط المالية المتمثلة بالسوق الفورية والآجلة والمستقبلية وما يتفرع عن الأخيرة.
ويرى المؤلف أن ما ينتج عن ذلك التنوع والتعدد والترابط من توقعات يشكل نظاماً للأسعار تختلط فيه عوامل العرض والطلب والمخزون التجاري بالمؤثرات على أسواق المال من إدارة للمخاطر والبحث عن عائد وغيرها، مما يجعل أوبك متلقية وليست محددة للأسعار بمجال تأثير واحد وهو تحديد سقف وحصص للإنتاج.
ويرى أن المنظمة عانت ولا تزال من خلافات حول مستوى السقف وتوزيعه بين دولها، ومن اختلاف فعالية تدخلها من آن لآخر، ومن درجات الالتزام بمقتضى تلك الآلية.
ويشير تاريخها إلى أن قدرتها تتضح بشكل أكثر جلاءً عندما يكون السوق في حالة تخمة عرض تتطلب خفضاً في الإنتاج لإعادة التوازن إليه، وتعتمد فاعلية ذلك على ما إذا كان ذلك الفائض نتيجة عوامل هيكلية غير قابلة للارتداد أو عوامل آنية.
وفي كلتا الحالتين يكون عامل التماسك الداخلي وحدة التخمة في السوق حاسمين في إمكانية وفعالية ذلك التدخل.
ويخلص الكتاب إلى أنه على الرغم من أفول عصر النفط الذي اتسم به القرن العشرين إلا أنه لا يزال له دور في منظومة الطاقة والاقتصاد العالميين وفي اقتصادات الدول المنتجة له لعقود عدة من القرن الحالي ولكن بعلاقات وتحديات مختلفة عما واجهه طوال تاريخه الذهبي.