جاسر عبدالعزيز الجاسر
في عهود غابرة كانت الإمبراطورية البريطانية لا تغيب شمسها عن الكرة الأرضية، فمع تنقل الشمس من الشرق إلى الغرب ينتقل النفوذ البريطاني الذي كان يمثله الاستعمار السياسي والاقتصادي، وبعد ارتقاء دول أخرى ظهرت «إمبراطوريات» جديدة تأخذ محل بريطانيا مثل فرنسا والدولة العثمانية وقبلهما البرتغال وإسبانيا وحتى إمبراطورية النمسا والمجر.
كل تلك الامبراطوريات رحلت وحلت محلها قوى دولية أخرى، أو استعادت الدول المستقلة حريتها السياسية واستفادت مما تبقى من ثرواتها التي استنزفتها الإمبراطوريات السابقة دون تعويض.
رحلت تلك الإمبراطوريات دون أسف، تاركة كثيراً من المشكلات، وأكثرها الإمبراطورية البريطانية التي تركت العديد من الإشكاليات والخلافات الحدودية بين الدول التي استعمرتها، في القارة الهندية أورثت للهند وباكستان مشكلة كشمير، وخلافاً بين الهند والصين، وخلافات متعددة في البحار المحيطة بالصين، بينها وبين الفلبين واليابان وتايبيه وهونج كونج.
أينما تذهب ترى مشكلة ما، ورثتها بريطانيا للدول التي كانت تستعمرها من آسيا إلى أمريكا الجنوبية، وتركتها دون حل، ومنها مثلاً مشكلة فوكلاند أيضاً.
أما أكثر المشكلات والقضايا التي تركتها بريطانيا بلا حل، أو في الحقيقة صنعتها وأشغلت العالم بها، وبالتحديد منطقة الشرق الأوسط، هي قيامها بصنع أكبر جريمة في التاريخ المعاصر، بل قد تكون أفظع الجرائم السياسية التي شهدتها البشرية، بأن ارتكبت جرماً بإصرار بحق أمة وشعب ومنطقة حيوية في العالم، من خلال قيامها بمنح جماعة وطناً على حساب شعب وأمة.
في عام 1917 وفي شهر نوفمبر، وفي الثاني منه تحديداً، أي قبل مئة عام، ارتكب وزير خارجية بريطانيا جريمة سياسية غير أخلاقية، أعلن آرثر بلفور بأن حكومة المملكة المتحدة تتعهد بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين التي كانت ترزخ تحت الاحتلال البريطاني، ومنذ ذلك اليوم وحتى اليوم عملت بريطانيا وتعمل على تحقيق هذا الوعد من خلال تكريس الظلم على الفلسطينيين وتعزيز سرقة وطنهم وتحصين السارقين اليهود بهذه الأرض.
بريطانيا التي وعدت ومنحت أرضاً ليست أرضها، وشردت شعباً، واستقدمت غرباء جمعتهم من شتات الأرض، التي ساعدت في تشكيل العصابات اليهودية التي أقامت مستعمرات بمساعدة قوات الاستعمار البريطاني، ثم ساعدتها على إيجاد كيان استعمار استيطاني تحول إلى «دولة» بمساعدة دول الغرب الكبرى وروسيا، كان هذا ثمرة وعد لا أخلاقي من وزير خارجية بريطانيا.
والآن وبعد مائة عام يتحمل البريطانيون مسؤولية سياسية وأدبية وأخلاقية بأن يعيدوا للفلسطينيين حقوقهم المشروعة التي ساعدوا الإسرائيليين في سرقتها، ومعالجة الجريمة السياسية غير الأخلاقية التي ارتكبتها بريطانيا بإطلاق وعد لقوم لا يستحقون على حساب أمة عانت من البريطانيين الكثير من المشكلات، والتي لا تزال تفرز سلبيات كثيرة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي صنعتها بريطانيا، وحان الوقت لتكفر عن فعلتها هذه وتعوض الفلسطينيين عن تلك الجريمة بالعمل بصدق وشرف لتحقيق الدولة الفلسطينية.