د. عبدالله بن ثاني
حينما قارن الأمير محمد بن سلمان بين جوالين، أحدهما نوكيا والآخر آيفون، كان هناك درس عظيم للأجيال التي يراهن عليها الأمير وتراهن عليه، وتذكرت قول المدير التنفيذي لنوكيا خلال الإعلان عن بيع نوكيا باكيًا، وخروجها من المنافسة: «نحن لم نفعل أي شيء خاطئ، ولكن بطريقة ما خسرنا». والسبب أن الشركات المنافسة لنوكيا تسارعت للتطوير والتحديث والتطبيقات والذكاء، وبقيت نوكيا دون تحديث، وإن كان سيرها طبيعيًّا فقد سبقها الجميع، وحكمت على نفسها بالفشل والخسران؛ لأنها تعتقد أن السير الطبيعي يكفي في المنافسة. وهكذا الأنظمة والشركات والمؤسسات والدول على السواء. كان سموه يقارن بين عصرَين مختلفَين، قديم وحديث، وبين منهجَيْن في المنافسة. وكان السبق للتطوير والجودة في صورة أكبر من جهازَين في يده الكريمة..
تأملت ملامح الأمير محمد بن سلمان التي تبعث على الارتياح بعيدًا عن بروتوكولات عهدناها، وفلاشات تخطف الأبصار عن المضمون الأهم، وهو يعلن في منتدى «مبادرة مستقبل الاستثمار» حدثًا تاريخيًّا؛ إذ قال: «إن السعودية لم تكن كذلك قبل العام 1979. السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع صحوة بعد عام 1979 لأسباب كثيرة، ليس من مجال اليوم ذكرها. فنحن لم نكن بهذا الشكل في السابق».
وأضاف مشددًا: «إننا فقط نعود إلى ما كنا عليه، إلى الإسلام الوسطي المعتدل والمنفتح على العالم وعلى جميع الأديان وجميع التقاليد والشعوب». وأوضح ولي العهد السعودي أن «70 في المئة من الشعب السعودي هو أقل من 30 سنة، وبكل صراحة لن نضيع 30 سنة أخرى من حياتنا في التعامل مع أفكار متطرفة، سوف ندمر المتطرفين اليوم وفورًا». وتابع «نريد أن نعيش حياة طبيعية، حياة تترجم ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، ونتعايش مع العالم، ونساهم في تنمية وطننا والعالم»..
ضجت القاعات بالتصفيق قناعة بما يطرح؛ لأن خطاب الأمير الإنساني الذي جعل فيه نفسه مع الشعب دون تميز واستعلاء هو أكبر تحدٍّ في الانتصار على الذات، وثمة فرق بين عظماء التاريخ ذوي المشروعات الخالدة والأحلام المشتركة والمستبدين الذين يحلمون وحدهم، وذلك في قوله: «أنا واحد من 20 مليون نسمة، ولا شيء من دونهم، فهم من يحفزونني، وسوف يخلقون بلدًا مختلفًا تمامًا، ويضعون بصمتهم في العالم». ثم توج هذا التصفيق بأكثر من 500 سيلفي مع كثير من الشباب الحالمين الذين يحيطهم بالحب ويحيطونه بالإخلاص له وللمشروع. والأكثر إثارة حينما تحدث سموه عن دهاء وعبقرية «الشعب السعودي» الذي يثق به وبقدراته وتحدياته وجبروته، مؤكدًا أنه أهم عنصر يجب التركيز عليه، ومبينًا أن الشعب الذي يعيش في هذه الصحراء الصعبة لديه كثير من القيم والمبادئ والركائز..
في تلك اللحظات الحالمة التي يتحدث فيها عن شعبه تجاوز سموه كل توصيات ميكافيللي البراجماتية في كتابه الأمير، وأسقط كل نظرياته الشريرة التي تفرق بين الأخلاق والسياسة، والتي تجعل الأمراء دائمًا في مقابل شعوبهم، وليسوا معهم وحولهم. وطوح سموه بعبارته العفوية ونواياه الحسنة كل صور البراجماتية التي تكرس النفعية ذات الصورة الأسوأ في الاستبدادية كثقافة مجتمعية تتوارثها الأنظمة حينما تشرعن كل شيء للأنا، وتلغي الآخر تحت أكثر المبادئ سوءًا «الغاية تبرر الوسيلة»، التي قتلت ملايين البشر في صراعات غير متكافئة على أيدي تلاميذ ميكافيللي الطغاة المستبدين..
صدقًا في لحظة ارتجال سموه على تلك المنصة الخالدة وصراحته كان يزيح شعور التصنع الذي غالبًا ما يكتنف الخطابات المعدة سلفًا، وكانت تلك اللحظات الحالمة أكبر من كل الساعات التي يقضيها الرسامون والبلاغيون والنساخ في إدارات الخطاب الرسمي التي عادة ما يكون وراءها من يبحثون عن رضا الأمير والمسؤول، ونسيان هموم المواطنين وحاجات الناس وتحديات البشرية ولو بلوحات مفضوحة إنسانيًّا، وعبارات ناشزة الفصاحة، وقضايا خاسرة. ربما لأول مرة في حياتي أشعر بأن التصفيق لغة عالمية مفهومة لكل أبناء البشر، وذلك حينما كان للأمير محمد بن سلمان على تلك المنصة التي تعد المنطلق الأول للمسؤول؛ ليحكم عليه المنتظرون إما بالفشل، وإما بالإنجاز، وما أكثر حوادث المنصات في التاريخ سلبًا وإيجابًا.. ولأول مرة في حياتي أشعر بأنني لم أرغب في انتهاء التصفيق الذي أصبح قيمة تاريخية، وكان قبلاً في غالبه مقطعًا لأوصال الرسالة الإنسانية بزيفه ونفاقه وضجيجه وصورته المزورة، وصار من النشاز إلى القبول رسالة من كل قلب سعودي لأميره الطموح «محمد»، وصفقوا جميعًا في القاعات وخلف الشاشات وفي الشوارع والبيوت والاستراحات والمزارع والمدن والقرى والجهات في وقت واحد كما تصفق الشعوب لعظمائها الاستثنائيين في مواقف متوهجة تاريخيًّا، وصفقوا بقوة وإن كان الزمن ليس زمن تصفيق بل زمن عمل وميدان كما قال سموه. ولأول مرة في حياتي كنت أرغب في أن يستمر التصفيق ويستمر مصاحبًا له حديث سموه عن عبقرية الشعب السعودي الذي يستحق من أمرائه ووزرائه ومسؤوليه كل تضحية وتقدير ومحبة، وأن يستحضروا حاجاته، وألا يغامروا بمصيره ومستقبل أجياله؛ فالأجمل في التاريخ أن يعرف الحاكم من هو ومع من يكون، وأن يفرق في المنصب بين الصلاحيات والمسؤوليات على السواء، وألا يختصره في أحدهما؛ لأن هذه المنهجية هي الدواء الناجع للبيروقراطية والتسلط والفساد الإداري والمالي على السواء؟ والأعظم في كل الاحتفالات أن يتجرد المسؤول من بروتوكولاته؛ ليعلن من خلال الكاريزما الخاصة به دولة القانون وتطبيق النظام وإعادة هيكلة مؤسساته بما يتفق مع روح العصرنة والتمدن وحقوق الإنسان، والأرقى إنسانيًّا أن يستحضر مفردات الحب كما تنثرت من فم الأمير محمد كالدرر واللآلئ والكهرمان بحديث القلب إلى القلب، ولغة مرتجلة بليغة خالدة من اللسان إلى الإنسان، لا يحسن صياغتها من يكتبون لمسؤوليهم خطاباتهم الرسمية وهيكتبونها له ويقدمون أنفسهم ويخططون لمشروعهم الخاص، ولا يستحضرون قيمة الشعب المكتوبة له في مثل تلك الاحتفالات. كان سموه يكتب للشعب ديباجة الأحلام على سفر الحقائق، وكان يبني قلاع العصرنة في مدينة الأحلام بطريقة خالدة، لا تقل عن عبقرية الهندسة في سور الصين العظيم، ولا تقل عن ومضات الدهشة في عجائب الدنيا السبع، ذلك الشعور القلبي الذي لا يستطيع حاكم ما أن يفرضه على شعبه في صورة تؤكد أن السلاطين والحكام والأمراء الذين فرضوا القسوة على شعوبهم، وامتصوا دماءهم، واحتقروا عظماءهم، وشتموا شهداءهم.. كانوا باختصار بلا قلوب، وليسوا أسوياء، ولن يعيشوا أسمى حالات الحب التي عاشها سموه وتلقفها الشعب الذي ينتظر أي لقاء لسموه بعد أن هذب بعبقريته خطاباتنا الاحتفالية بالطعم والذوق واللون..
إن كان التاريخ الإنساني قد منح عظماءه الخلود بسبب الأداء الاستثنائي المعتمد على النوايا الحسنة تجاه الجنس البشري بمختلف مشاربه، وإن كان التاريخ الإنساني قد فتح أبوابه الموصدة لأولئك الخالدين من البشر الذين شيدوا الحضارات العامة، وحطموا المشروعات الخاصة، وإن كان التاريخ الإنساني قد بارك على غير عادته في الحكم على الأحداث قبلاً ونوايا صانعيها ابتداء دونما إرجاء تلك الأحكام للأسئلة «لماذا فعلتم كذا؟»، فمن حقه اليوم أن يقف مبهورًا أمام شخصية نافذة في أجوبتها وأفكارها واستراتيجياتها التي تنبع من رحم الأحلام التي صنع منها عظماء التاريخ واقعًا مملوءًا بمقومات الحياة الطبيعية للبشر الأسوياء.. كان حقه أن يقف أمام شخصية استثنائية، تزينت بالتواضع والعفوية من جانب، ونحتت أفكارها على صخور التاريخ.. إنها شخصية الأمير محمد بن سلمان الذي يكفيه أنه التلميذ الأول في مدرسة ملك عظيم مثل سلمان...
شخصية تواجه الواقع مهما كان مؤلمًا، وتسمو تحت كل أدوات الضغط حتى ملكت زمام المبادرة، وتفننت بتحقيق الحلم.. وما أعذب خطابه الأخير الذي يحمل في جناحيه التفاؤل والرجاء والأحلام؛ ليضع التاريخ أمام نفسه وأمام مسؤوليته الإنسانية إن لم يفسح له صفحة بين صفحات الخالدين...
صدقًا إن كان التاريخ الإنساني قد وقف أمام خمسة خطابات في التاريخ الحديث فمن حقه أن يقف أمام خطاب سموه الأخير وهو يرسم الأمل بيديه الماهرتين وألوانه المستمدة من طيف قوس قزح المصاحب لمراحل المطر وأسراب الطيور وعبقريته الفنية في التناغم بين اللون والفرشاة والضوء في جدارية عيوننا التي أشغلها الرمد الذي لم يكن ربيعيًّا طارئًا في موسم يزول على أعقاب موسم آخر، ولكنه كان أبديًّا حتى أصاب جيلاً كاملاً بعمى الألوان وسواد الكراهية للشعوب والأمم، ولم نعرف طيلة تلك المراحل إلا لون رماد أشبه بلون باهت، غطى لوحة بيكاسو «جيرنيكا» حين رسمها بعد تعرُّض المدينة لكارثة التدمير من قِبل الطائرات الألمانية النازية والإيطالية البلشفية آنذاك، وكانت كل روح فيها تئن وتشكو المصاب خلف كل نافذة مسدودة وباب موصد...
العظماء يحلمون لأن طموحهم بلا حدود، وقادرون على صناعة التغيير الممنهج لتدمير الواقع المر والعنصرية البغيضة والفساد المستشري بأحلام وردية جميلة، ويدمرون التخلف على مخلفات الكوابيس السوداء وخزعبلات الشياطين والكابالا المستعصي.. والعظماء يحلمون ولكنهم يؤمنون بأن كلمة من ثلاثة حروف (العمل) تفصل بين الحلم والحقيقة كما قيل.. والعظماء لا ينامون؛ إذ هم في سباق مع الزمن والتاريخ والجغرافيا.. ومن يعرفون سموه فقد أجمعوا على أنه مقدام وهمام وحالم، ولكنه لا ينام وعيناه مفتوحتان، ويتناول طعامه بين المكاتب وفي الممرات؛ ليعطي الشباب أكبر درس في حياتهم «الإنجاز ليس غير» من خلال أنموذج يعد أكبر من عبارة هاري إدوارد: «علينا أن نعلّم أبناءنا كيف يحلمون وأعينهم مفتوحة»؛ لأن سموه ما هو إلا حادي الأمل الذي يمتطي صهوة الصحراء؛ ليمنح أهلها الري بعد العطش، والظلال بعد الشموس.. إنه باختصار حالم في رابعة النهار كما قالت العرب، ويرسم مشروعاته الكبرى على أرض الواقع دونما ملل أو كلل؛ ليؤكد أن الأحياء وحدهم يحلمون في مدن من نور وحرية ومساواة وعدالة وقانون.. أما الأرض الموات فأحلامها عواصيف سوداء، وكائناتها الحية متوحشة، وحدودها مقابر.. وعطفًا عليه فحق للشباب المفتون بكتاب «جيفارا» «أحلامي لا تعرف حدودًا» أن يدركوا أن سموه قال صادقًا بعد سنين: «من لا يستطيع أن يحلم فليس له مكان بيننا»، وحق للمحبطين والمقهورين المفتونين بسيمفونية مارتن لوثر كينج «لدي حلم»، التي وضعت أسس حقوق الإنسان وتبديد كارثية اللون الأسود وتطبيقات الاختزال في بلد الديمقراطيات، أن يدركوا أن سموه تكلم بلسان ذوي الحاجات كلهم بمضامين إنسانية أكثر من مضامين البيض والسود في أمريكا ذات يوم؛ ليؤكد سموه أنه يسعى لصناعة مجتمع محكوم بالقانون والعدالة والمساواة والمواطنة التي تصنع منا جميعًا مواطنين وليس سكانًا؛ إذ لا يمكن أن تبنى أية حضارة دونما أخلاق وفكر، وبخاصة حينما ختم لقاءه بعبارة أن مدن المملكة كلها تسير على خطى تبوك الحالمة السعيدة التي لو رآها المنفلوطي لجعلها أنموذجًا لمدينة السعادة في كتابه النظرات؛ إذ قال عنها: «تلك مدينة السعادة التي يعيش أهلها سعداء، لا يشكون هما؛ لأنهم قانعون، ولا يمسكون في أنفسهم حقدًا؛ لأنهم متساوون، ولا يستشعرون خوفًا؛ لأنهم آمنون...».
العظماء يبنون مدنًا، والطغاة يهدمون حضارات، والعظماء يسعون لتحقيق السعادة فيمن حولهم، والطغاة يخلقون في كل بيت مصيبة.. العظماء يشيدون جامعات، والطغاة يتفاخرون بقلاع السجون والسياجات المضروبة على مجتمعات كاملة.. العظماء يبحثون عن سعادة الآخرين، ويسعون إلى حل مشاكل البشر، والطغاة يتسابقون إلى خلق عالم تعيس.. العظماء يلتزم أمامهم فريقهم بالتفاؤل والإخلاص، والطغاة يختصر فريقهم الوطن لهم وحدهم، ويمارسون التهميش والوصاية على الجهات، ويدمرون البشر.. كل ذلك يستحضره من يرى سموه وهو يترجل ويصور ويلاطف ويصحح خشية أن تلتبس الأجوبة على المتصيدين، وكأنه يطوف في مدينة نيوم الحالمة؛ ليغرس ثقافة الإنسان السوي والعاشق والحالم والموهوب.. ويبقى في الأخير الاستثمار في الإنسان - كما أطلقه سموه في رؤية المملكة 2030 - ومن أولى الأولويات أن يستحضر سموه - وهو القادر عليه - ضرورة إعداد علماء سعوديين في كل المجالات التطبيقية، ومفكرين في العلوم النظرية، وفلاسفة ينظرون للعالم بمشاعل العلم والمعرفة، وفنانين وتشكيليين وكتّاب رأي وشعراء وأدباء.. فالاستثمار في الاقتصاد لا يقل أهمية عنه الاستثمار في الفكر والثقافة؛ فقد غاب عن مشهدنا طيلة سنين الفلاسفة والمفكرون ولم يبقَ إلا النخب.. وانتهاء لسان كل إنسان في هذا الوطن عبارة مارتن لوثر كينج الخالدة لسمو الأمير: «أنا لدي حلم... I Have A Dream».
والله من وراء القصد.