د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
- بين «الحرية والحتمية» خيطٌ يستدقُّ كما يسترِق ؛ فنحن أحرارٌ ونحن حتميون، نختار ونُجبر، وننطلق وننكفئ، ونقرر ويُقرَّر عنا، وكذا نأكل ونشرب ما يروق لنا ومعه الدواء الذي يُفرض علينا، ونقود سياراتنا بإرادتنا ونلتزم بالأنظمة دون اختيارنا، ونقرأ ما نريد وأحيانًا ما يُراد، ونفهم ما تسعفنا به أذهانُنا وقد يؤجر بعضنا عقولهم لمن يختطفون رؤوسهم، وهكذا؛ فبين المشيئة والإجبار تدور الحياة ويتبدل الأحياء، وهنا تتسع أرضية التنازع بين المنطقين مع تأكيد غلبة الحتمية على الحرية، وبذا يتفوق النقل على العقل بالرغم من محاولات التوفيقيين الذين» يدرأون» أو لنقل : يحاولون أن يدرأوا التعارض بينهما، وحين ينتصر العقل فبإسنادٍ خارجي في حين يحمل النقل ثقله وثقته معه هازئًا بالزمن الذي يستجيب لشروطه بفرضٍ حينًا وبلطفٍ أحايين.
- لعصر العقل في أوربا تأرخةٌ مكتملة ربما جاءت موسوعة « ول ديورانت « المعروفة ( قصة الحضارة ) ممثلةً لأهم تحولاتها، بما فيها من محاكماتٍ ومماحكاتٍ وإقبالٍ وإدبار وهزيمة وانتصار وبصورةٍ بدت لصاحبكم موضوعية؛ فحين تحدث عن « غاليليو غاليلي 1564-1642 م ودفاعه التأصيلي عن نظرية «كوبرنيكوس 1473-1543 م» حول مركزية الشمس لا الأرض خلافًا لما ألفته الكنيسة ووافقتها الفلسفة الإغريقية من لدن أرسطو، وما تعرض له العالمان البولندي والإيطالي من عنت، ورغم تأخر الاعتراف بهما وإعادة الاعتبار لهما قرونًا فإنه لم يُغفل الإشارة إلى خطأ الاثنين في افتراض ثبات الشمس وسط الكون دون حركة، وتأكيده ألا وجود لفلكي واحدٍ يوافقهما ( الجزء 30 - ص 274- طبعة دار الفكر)؛ فكأنه انتصر للمدرسة النقلية بحزمٍ يخالف ما سلكه الأكثرون من قارئي عصر التنوير والتثوير الذي تجاوزت به القارة الأوربية عصورها الوسطى.
- لم يغب العقل في الثقافة الإسلامية بل قدمه بعض العلماء كالغزالي وابن العربي والشهرستاني على النص عند التعارض استنادًا إلى أن فهم النص هو المشكلة وليس النصَّ نفسَه، وقالوا في هذا : «لا يتعارض عقل صريح مع نص صحيح «،كما أن من الأصوليين كنجم الدين الطوفي 657-716 هـ من قدَّم المصلحة على النص ؛فالنص الثابت بقطعية المرجعة والدلالة لا يصطدم بالمصالح العامة للأمة،وفيه مباحث معمقة لمن شاء مراجعتها، وربما كانت مرجوحة من غير أن ننفي أَتباعها.
- ويبقى الاستفهام هنا : هل نحن مقبلون على مرحلة استعادة دور العقل في تسيير شؤون الأمة وإصلاح أوضاعها، وهل نتطلع إلى المرحلة التوفيقية بين الحرية والحتمية وفق نسخها الفلسفية التي اعتنقها «توماس هوبز وديفيد هيوم وجون ستيوارت مل «مؤتلفةً مع بعض مدارسنا التراثية كما قادها أئمة كبار أعلَوا شأن الرأي وتوسطوا بين الحرية والحتمية؟
- للعقل مكانُه وللنقل مكانتُه..