أسعدني وأسعد كل محب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم القرار العبقري الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز بإنشاء مجمع الملك سلمان للحديث النبوي، الذي يؤكد عنايته بالسنة النبوية واستمراره في خدمة الشريعة الإسلامية، وهذا هو العهد بقادة هذه البلاد منذ تأسيسها ومن يتبع المخطوطات التي وقفها حكام هذه البلاد في عهديها الأول والثاني وما طبع ونشر في عهد المؤسس ومن بعده يدرك أنها أخذت على عاتقها خدمة الشريعة الإسلامية ورعاية معالمها، والذود عنها، والعناية بعلومها والعمل على نشرها وتبليغها في مشارق الأرض ومغاربها، مع حرصهم على جمع كلمة المسلمين، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، وهذا القرار العبقري هو تتمة لما قام به سلفه الملك فهد الذي أسس إنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف والاهتمام بترجمته وتفسيره، إيماناً منه بأن القرآن الكريم هو مصدر التشريع الأول، وهو دستور هذه الأمة، فوضع البذرة التي آتت ثمارها وبلغ أثرها سائر أنحاء المعمور، وإيماناً من خادم الحرمين بأن السنة هي صنو القرآن الكريم المصدر الثاني من مصادر التشريع، وهما معا يشكلان دستور الأمة، ومنهج حياتها، فكان هذا القرار الذي هو توفيق من الله لخادم الحرمين الشريفين، واختيار منه تعالى، وببشارة له، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «من أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» الترمذي (2678)، وأسأل الله أن تتحقق هذه البشارة.
والحفاظ على السنة واجب شرعي تحمله العلماء جيلا بعد جيل والخلفاء زمانا بعد زمان إلى عصرنا الحديث، ثم كان هذا التوجيه تتويجا لهذه الجهود وإصقالا لها.
وكما كان خادم الحرمين موفقا في هذا القرار، فقد اجتمعت عبقرية القرار مع عبقرية المكان الذي سيكون مستودعا لها المجمع وهو المدينة النبوية دار الهجرة ومنبع السنة ومأزر الإيمان.
وقد سبق إلى اختيار المدينة لتكون مستودعا لجمع السنة من قبل الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز الذي يعد تاريخيا أول من أمر بجمع الحديث، فاختار له أبوبكر بن حزم أحد أوعية العلم، وكان واليا له على المدينة وكانت المدينة منبع الرواية ورحلة الرواة وطلبة العلم في هذا الوقت وعلى مر العصور، فكان في عبقرية المكان وحسن الاختيار دليل على تمام توفيق الله لخادم الحرمين الشريفين، وتأكيد على استمراره في اتباع أسلافه والسير على هداهم.
وكذلك عبقرية في تحديد مهام هذا المجمع التي تتركز في خدمة الحديث النبوي وعلومه وجمع الأحاديث وتصنيفها وتحقيقها ودراستها، فقد حظيت السنة النبوية وحديث النبي صلى الله عليه وسلم بقدر كبير من العناية والاهتمام من لدن عهد الصحابة ثم التابعين فتابعيهم ومروراً بالخلفاء والأمراء والسلاطين وحتى عصرنا هذا، وذلك لإدراك الأئمة لعظم السنة ومكانتها، فالسنة بيان الكتاب العزيز والمصدر الثاني للتشريع، واتباعها إصلاح لشؤون الدنيا والدين.
فهي حجة قائمة بذاتها ويجب الرجوع إليها إذا ثبتت ولا يجوز الحكم بالاجتهاد والرأي مع ثبوتها.
وقد تتابعت عناية الأمة بجمع الحديث النبوي من لدن الصحابة، فهو كما وعوه في صدورهم فقد خطه ودونه بعضهم في صحفهم، فمنه ما دونه عبدالله بن عمرو في صحيفته المسماة بـ»الصادقة»، وصحيفة أبي هريرة التي كتبها عنه همام بن منبه وعرفت بـ»صحيفة همام»، اللتين تضمنهما مسند الإمام أحمد (المسند 240-11-317) وظل التدوين هكذا في صحف متفرقة لاعتماد الصحابة والتابعين على حسن حفظهم، ثم انتقال التدوين خطوة واسعة بأمر الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز الذي خشي على السنة وقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية ونشأ فيها الفرق المبتدعة، وتناقل الحديث العرب والعجم، قلة الضبط وكثرة الخطأ واختلاف الرواية، فأمر عامله على المدينة وقاضيها أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء. (البخاري 99).
فكان الزهري أول من استجاب لهذا الأمر، فدون في ذلك كتاباً، ثم فشا أمر التدوين فدون من بعده ابن جريج وسعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وسفيان الثوري وابن إسحاق، وإمام أهل المدينة الإمام مالك، وما بعدهم من أئمة هذا الشأن البخاري ومسلم.. وغيرهما، وكثرت التصانيف والتدوينات واختلفت، فمست الحاجة إلى التصنيف في علوم الحديث وضوابط الرواية وأحوال الرواة وغيرها من علوم الحديث، وهذا ما تضمنه القرار الملكي من خدمة الحديث النبوي وعلومه.
وكذا ما تضمنه من تحقيق ودراسة فقد تتابعت التصانيف والمناهج في إحراز ذلك وما شرطه الشيخان وغيرهما في مصنفاتهم من شروط هو بمثابة تحقيق وتوثيق وجرح وتعديل ودراسة للحديث النبوي، فكان ما تضمنه هذا القرار من مهام أشبه بجوهرة التاج وتتمة البناء، مشتملا على أصناف ما سبق من مجهودات وملبيا لما يحتاج إليه فيما هو آت إن شاء الله.
ولا يخفى أن ما تضمنه القرار من تكون المجمع من مجلس علمي يضم صفوة علماء الحديث الشريف والمختصين في العالم الإسلامي، سيقرب اجتهادات العلماء، وتجويد الدراسات الشرعية، لكون ما سيصدر عن المجمع سيكون مرجعاً رئيساً في الحديث النبوي الشريف يعبر عن عالمية هذا المجمع ومدى قوته، ومدى إمكاناته وتنوع خبراته، ولاشك أن تنوع هذه الخبرات سيكون مفيداً للإسلام والمسلمين، وسيكون أكثر ضبطاً أسرع تعاملا مع كثير من التحديثات والمشكلات والنوازل والمسائل المعاصرة التي تحدث الخلاف بين الصف المسلم وتدفع البعض بفهم خطأ إلى ما يسيء إلى الإسلام، فهذا اللفيف سيكون شعاره وسطية الإسلام بصحيح السنة، وصحيح استنباط أحكامها، وعدم توظيفها بشكل مقتطع خاطئ، كذلك سيجعل المجمع مصدرًا تشريعياً موثوقاً للعناية بالحديث النبوي الشريف وعلومه وحمايته من التدخل والإضعاف.
ختامًا نحمد الله على ما وفق إليه خادم الحرمين الشريفين في اتخاذ هذه القرار.
وإياه نسأل أن يحقق به الغاية ويعود منه النفع على سائر الأمة وأن يوفق خادم الحرمين لخير الدنيا والآخرة وأن يسدد خطاه وأن يجعل هذا المجمع في ميزان حسناته، وأن يوفقه لكل خير.
** **
- الأستاذ بقسم السنة وعلومها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية