د. محمد عبدالله العوين
واصل الملك سعود بن عبد العزيز معركة التحديث الجريئة التي بدأها والده الملك المؤسس؛ فاتجه إلى التوسع في التعليم وأنشأ جامعة الملك سعود التي تم افتتحها في 14 شوال 1377هـ وأطلق المجال للتعبير عن الرأي في الصحافة التي فتح لها مجال القول في طرح أسئلة النهضة وطرق أبواب التنمية الشاملة في البلاد وتفكيك التقاليد الاجتماعية الموروثة التي تقف ممانعة أمام التحديث؛ كقضية تعليم الفتيات التي ناضل في سبيل تحقيق هذا المطلب المستنيرون من الكتَّاب والمثقفين إنابة عن المرأة التي لم تستطع في ذلك الوقت رفع صوتها بالمطالبة بتعميم تعليم الفتيات إلا من خلال عدد قليل من المتعلِّمات في مدارس خاصة أو خارج البلاد واستطعن الكتابة في الصحف؛ لكن الأدباء والكتَّاب احتملوا عنت الكتابة في أمر لم يكن المجتمع يتقبّله - آنذاك - فقوبلت دعوتهم بالاستنكار والرفض؛ كما كان الشأن مع الأستاذ أحمد السباعي الذي يعد من أوائل من نادوا بضرورة تعليم المرأة بما كان يكتبه متخفياً باسم «متعلِّمة حجازية» في صحيفة «صوت الحجاز» عام 1352هـ والأستاذ عبد الكريم الجهيمان الذي فتح صفحات جريدته «أخبار الظهران» 1378هـ لعدد من الأقلام التي نادت بذلك مما أثار عليه التيار المتشدِّد، وانتهى الضغط الاجتماعي عليه بتعطيل جريدته عن الصدور وإيقافه شهرين للمساءلة؛ إلا أن الملك سعود - رحمه الله - كان في الوقت نفسه قد وصل إلى أن قرار تعليم المرأة أصبح ضرورة ملحة وأن ما قدَّمه الأدباء والكتَّاب من جهد بأقلامهم قد أثمر عن تكوين طبقة جيدة مهيأة لقبول قرار تعليم الفتاة وتأييده وتنفيذه، وبعد انتظار لم يطل أعلن قراره الفاصل الشجاع بضرورة تعليم المرأة 1379هـ تاركاً لمن لم يقتنع بأهمية تعليم المرأة الخيار وحرية التفكير، وكان المعارضون لتعليم المرأة في الأغلب من وسط نجد، ثم أقبلت البلاد كلها على إدخال بناتهم في المدارس.
وقد حضرت في الجامع الكبير بمدينة حوطة بني تميم عام 1389هـ وأنا طفل مشهداً لا يمكن أن أنساه بين المعارضين والمؤيِّدين المطالبين بتعليم البنات؛ فقد أرسل الملك فيصل بن عبد العزيز الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود مفتي قطر وهو أحد أبناء الحوطة؛ لإقناع أهل البلدة بقبول القرار وإقناعهم بجدواه، فقام الشيخ خطيباً بعد صلاة الجمعة التي أمَّ المصلين فيها الشيخ صالح بن هليل وواجه استنكاراً من فئة ورضا من فئة أخرى من المصلين، ودارت بينهما معركة عنيفة بالأيدي داخل المسجد، مما اضطر الشيخ إلى الخروج من باب الخطيب بحماية أمير البلدة آنذاك عبد الله بن إبراهيم بن معمر.
ثم أدخل جميع المعارضين بناتهم في المدارس، ونال بعضهن شهادات الدكتوراه!
وهو الموقف الحازم الذي اتخذه الملك فيصل أيضاً من المتشدِّدين الذين عارضوا افتتاح تلفزيون الرياض 1385هـ ووقفوا أمام محطة البث يريدون منع الإرسال من الانطلاق، وقام من تزعم الرفض بجولات تحذيرية على المدن والقرى في وسط نجد فجابها شرقاً وغرباً يحذِّر من الخطر الساحق الماحق الذي سيدخل إلى بيوت الناس ويفسد أخلاق البنين والبنات، وقد حضرت في طفولتي سنة افتتاح التلفزيون عام 1385هـ خطبة عصماء مجلجلة في الجامع الكبير فجر أحد الشتاءات القاسية، وكانت صلاة الفجر تُؤدى في الخلوة؛ لبرودة الطقس وهطول المطر، ولكن المتحدث الموهوب المنطلق بحماسة واندفاع لم يبال بذلك فقام بعد أن سلَّم الإمام مختتماً صلاة الفجر واستهل تلك الخطبة النارية المحذِّرة من إدخال التلفزيون إلى بيوت المصلين، والعجيب أن الحاضرين جميعهم قاموا إليه بعد انتهاء خطبته مسلمين ومؤيِّدين مظهرين له وعداً بألا يدخل هذا الشيطان بيوتهم؛ لكن الزمن كان أقدر على إقناعهم بضرورة متابعة ما في هذا العالم من أحداث وما يبثه التلفزيون من برامج وندوات ومسلسلات فدخل إلى كل بيوت المصلين الذين نكثوا عهدهم لمن أثَّر فيهم وقتياً بدوافع العاطفة غير الواعية.
يتبع