عروبة المنيف
على مدخل مدينة في بلاد بعيدة، كان يجلس رجل طاعن في السن، وعلى بعد أمتار منه كان هناك تاجر جوال يقوم بسقاية جماله قبل الانطلاق في جولته لبيع بضائعه، وبينما كان ذلك العجوز يرفع رأسه إذ توقف أمامه شاب وسأله: أيها الشيخ، كيف هم الناس في هذه المدينة؟، رد عليه العجوز بسؤال: وكيف كان الناس في البلاد التي أتيت منها؟، فرد الشاب: لقد كانوا شريرين وأنانيين، ولم أكن أطيقهم، لذلك تركت لهم البلاد ورحلت، فقال له العجوز: مع الأسف فسكان هذه المدينة أشرار وأنانيون أكثر مما تتصور، فظهر الإحباط على وجه الشاب، ثم مضى في طريقه. وبعد قليل اقترب شاب آخر من العجوز وانحنى إلى جانبه ثم سأله، أيها الشيخ: كيف هم الناس في هذه المدينة؟، رد عليه الشيخ، وكيف كان الناس في البلاد التي أتيت منها؟ فرد الشاب: لقد كانوا لطفاء وكرماء وتقطّع قلبي لفراقهم، فقال له الشيخ: لا تحزن فسكان هذه المدينة ألطف وأكرم مما تتصور، ارتسمت بسمة على وجه الشاب ثم مضى في طريقه. ولكن التاجر الذي كان يسمع الحوار ويسقي جماله غضب من الشيخ وسأله: وكيف ترد نفس السؤال بجوابين متناقضين؟! رد الشيخ: من يفتح قلبه تتغير نظرته إلى العالم، كلٌ يحمل عالمه في قلبه.
تلك الحكاية تستهويني كثيراً فهي تحفزني للحديث عن مفهوم شائع في علم «البرمجة اللغوية العصبية» يدعى «الإدراك هو الإسقاط «ويعني، أنّ الشخص يستقبل العالم الخارجي كما هو يعرضه، فالعالم بهذا المفهوم هو انعكاس لأفكار ذلك الشخص الداخلية ومشاعره وقيمه ومعتقداته، وبتعبير آخر، العالم الخارجي لدى الشخص هو انعكاس لما يحدث بداخله، فهناك مستوى من الإدراك لدى الشخص يؤثر في واقعه المادي، فما يفعله الآخرون ويسلكونه هو خيارهم وخيارنا هو كيفية استقبال تصرفاتهم، إننا بدون وعي سنرى من الآخرين ما نريد أن نراه وسنستقبل أشياء هي فينا نحن، وعوضاً عن القفز وإطلاق الأحكام، لنتأكد ونعطي فرصة عادلة للآخر. إن الإنسان يدافع عن نفسه أمام ما يحويه في داخله من خصال سواء كانت «إيجابية أو سلبية»، فيحاول إنكار وجود الصفات السلبية بداخله وإسقاطها على الآخرين، فعلى سبيل المثال، الشخص العصبي يطلق على الدوام أحكاماً على الآخرين بأنهم عصبيون، فهو بذلك يلقي اللوم على الآخرين بنفس الخصلة التي يحملها، وهكذا مع كل الصفات السلبية الأخرى التي لديه.
إنّ الإسقاط هي ميكانيكية نفسية دفاعية، والمشكلة هنا تكمن في عدم قبول الآخر باختلافاته، فاختلاف الأفكار والمشاعر والقيم والمعتقدات وما يتبعهما من سلوكيات وتصرفات هو أمر طبيعي، ويحدث الإسقاط في الغالب بين الشركاء في بداية حياتهم الزوجية، لذلك أرى أنّ استيعاب مفهوم «الإدراك مقابل الإسقاط» يجعل من عملية قبول الشريك أعلى، ويتم بذلك التجاوز عن السلبيات التي يعاني منها الطرفان بشكل أكثر سهولة وسلاسة فيقل سوء الفهم للشريك وبالتالي سوء التقدير، ما يجعل عملية التعايش بينهما أكثر إمكانية، فتصبح التنازلات تقديراً والتضحيات محبة والقبول رحمة.