د.فوزية أبو خالد
-1-
كانت البنت قبل قليل فراشة حقل.. معيدة صغيرة تعمل بكل طاقة الصبا مع طالبات يقاربن عمرها في تيسير عملية التعليم الجامعي طوال النهار وتعمل على تقوية شوكتها العلمية بالقراءات والبحث طوال الليل..
كانت الصبية قبل أقل من القليل محاضرة على أعتاب عضوية هيئة التدريس تحمل عبئا تدريسيا لا يقل عن أربع عشرة ساعة في الأسبوع أثناء الدوام يقابلها الضعف من الساعات خارج الدوام في تحضير المادة العلمية لكل مقرر من المقررات. ولا تلبث بعد تجربة تدريس تطول أو تقصر أن تجسر هذه التجربة الميدانية في التعليم بتجربة إضافية في التعلم فتنتقل من مقعد الأستاذة المحاضرة لمقعد الطالبة من جديد في عمل ممض ومتطلب لتحضير درجة الدكتوراه..
كانت السيدة للتو أستاذة، أستاذة مشاركة، أستاذ مساعدة، كانت كتيبة من جيش المكان تذود عنه بضوء عيونها بكل ما أتى الله العلماء من عباده من شيمة الصبر ومن شغف المعرفة.
كان الشاب من أوائل الدفعات التي حصلت على درجة الدكتوراه في تخصص نادر.
كان عدد من الشباب نبراسا في العمل التعليمي والبحثي.. وفجأة كأن شمس النهار أظلمت في رابعة الضحى، فجأة كأن القمر بلغ المحاق في ليلة تمام البدر، فجأة كأن صفحة الأرض طويت طي السجل وكأن سفر السماء لم يعد يتسع للنجوم والكواكب والسحاب. فجأة ضاق المكان بمؤسسيه وأساتذته. فجأة لم يعد من مكان في حرم الجامعة ومكاتبها وقاعات محاضراتها، فأصبح أصغر من أن يتسع للرعيل المؤسس من أساتذة الجامعات. وصار على شباب الأمس وخبراء اليوم الرحيل وإخلاء المكان لجيل جديد غير مأسوف على تجربتهم العلمية الطويلة ولا على ما صرفته الجامعة وصرفوه على تعليمهم من تكاليف مادية ومعنوية باهظة.
-2-
لا بد أن من قرار إخضاع عمل الأستاذ الجامعي لنفس معيار العمر التقاعدي المحدد ببلوغ الستين من نظام الخدمة المدنية لم يضع في حسبانه المعايير العالمية للعمل التراكمي لعمليات التحصيل الأكاديمي المكلفة والطويلة في التعليم الجامعي.
كنت قد كتبت باكرًا نهاية التسعينيات الميلادية حين جرى إحالة أحد أساتذة الجامعة الأشاوس وعدد من المعالم العلمية بعده أن ليس من تقاليد الجامعات العريقة أن تستغني عن جميع أساتذتها دون استثناء للتميز العلمي وهم في كامل لياقتهم المعرفية والصحية. وقد جرى بعدها ليس بعد مقالي بالضرورة ولكن بعد فترة من ذلك التطبيق الميكانيكي للعمر التقاعدي على أساتذة الجامعات استحداث إجراء تصحيحي بالسماح بتمديد خدمات عضو هيئة التدريس أو التعاقد معه بعد إنهاء خدماته في الغالب بشروط لا تخلو من ألم وعدم إنصاف إن لم نقل إنها تعبير حي عن المهانة والإجحاف.
-3-
كتب في بحر هذا الأسبوع الدكتور حمزة المزيني من منظوره النقدي الفكري على مستوى ميداني اجتماعي وليس من معتاد نقده الألسني الأكاديمي، مقالاً مشحوناً بذلك النوع الخفي من الشجن الذي يتستر عليه أصحابه تعففاً. فوضع بتلك الكتابة المنتفضة النقاط على بعض جروح الكرامة والوفاء التي يتعرض لها الكثير من أساتذة الجامعة وأساتذتها بعد عمر من التفاني عندما يرغبون في الاستمرار بالعمل بعد بلوغهم المعيار التقاعدي المتعارف عليه لوظائف الخدمات العامة في القطاعين العام والخاص.
فلطالما رأيت التماعات الدموع في عيون المتعففين من أصحاب ذلك الشجن السري وهم يغادرون أمكنة تلفظهم كأي كائن فائض عن الحاجة بعد أن أفنوا فيها زهرة أعمارهم وكانوا من مؤسسيها قشة قشة وطوبة طوبة ورملة رملة, ولطالما أحسست بطعم الطعنة الصامت في كلمات الوداع السريع المريع الذي تمر بتجربته تلك القامات التي لم ينحنِ منها فيما سبق إلا لله سبحانه وتعالى في وقفة صلاة أو في وقفة تعبد بالعلم على الكتب والمحابر.
عمل أستاذات وأساتذة الجامعة عمل لا ينتهي بالالتحاق بوظيفة بعد الحصول على الشهادة الجامعية بمرتبة الشرف الأولى وبما لا يقل عن مرتبة الشرف الثانية في الأحول الطبيعية ولا أتناول هنا «استثناءات الوساطات». فعملهم يبدأ ولا ينتهي بالحصول على الدرجات العلمية واحدة بعد أخرى مثل الماجستير الدكتوراه وما بعدها.. بل إنه عمل لا منتهى له لأن الأستاذة والأستاذ.. إن أرادوا أن يكونوا أساتذة بالمعنى المعرفي والأخلاقي للكلمة فإن عليهم ألا يتوقفوا لحظة لا أثناء العملية التعليمية وشهور العمل ولا في الإجازات عن أن يكونوا طلاباً، وعليهم أن يكونوا طلاباً مجدين وجادين ووثابين ليس طول أيام السنة فحسب، بل وطول العمر وعبر مراحل الشدة والرخاء.
وفيما يجري استثناء أساتذة الجامعات كما أشار مقال دكتور حمزة حتى من حق التصويت في قرارات القسم الذين هم من أعمدة تأسيسه وخبراته حين عملهم بعقد سنوي مقطوع وإن كان قابلاً للتجديد حسب عدد من المعايير غير العادلة بالضرورة، فإن أحدًا لم يبادر ليقول لماذا لا يستثنى الأستاذ الجامعي من شرط العمر في العمل, ليس فقط أسوة بالمعايير العالمية للجامعات الرصينة والأساتذة المتميزة بل «أسوة بأصحاب المراتب العليا في الدولة».. باعتبار أن ذلك لو تم لا يكون بمقياس الحظوة بل مقياس الطبيعة النوعية المختلفة لعمل التعليم الجامعي والتي تصبح الخبرة الطويلة التي لا تكف عن التجدد أحد أعمدتها.
-4-
السؤال عند رغبة أحد أعضاء التدريس في التمديد أو التعاقد ليس فقط هل لا يزال المعني أو «المُعنى» يعمل على الأبحاث ولا يزال ينشر أبحاثاً ولا يزال حاضر البديهة متوقد الذهن في المحاضرات، ولكنه سؤال يتعدى السؤال عن اللياقة المهنية ليسأل أسئلة لا تليق بمؤسسة علمية يفترض فيها التنزه عن كل أشكال التعصب والعنصرية. فما زلت أذكر كم صعقنا أنا وعدد من الزميلات ونحن نستمع عبر التواصل التليفوني لاجتماعات القسم المشتركة أثيريًا بين الأساتذة والأستاذات، أحد الزملاء يسرد بعض الاشتراطات التي تقاس بها قدرات عضو هيئة التدريس ليصوت له على التمديد أو التعاقد سنوياً بعد التعاقد، ومنها هل يتكلم دون تأتأة، هل يتحرك دون توكؤ، هل يخلو من الرعشة أو التلكؤ...؟
ويبدو أن من وضع هذه الاشتراطات ومنها اشتراط عمر تقاعدي لأعضاء هيئة التدريس نفسه لم يقرأ أو يشاهد سيرة العالم الفيزيائي ستيفن هوكينج ولم يقرأ حرفاً من عبقرية رجل مقعد شاهق.
كما لا بد أن من وضع ذلك الاشتراط العمري باستثناءاته المطاطة في مراوحتها للأسف بين الشفقة بل والمزاجية، لم يلحظ فتحه الباب أحياناً لاستغلاله (للتخلص) من أساتذة متوهجين بقرار التقاعد لمجرد تصورات متحيزة قد تصمهم بالأساتذة المشاغبين أو تعاقبهم بعدم التمديد أو التعاقد معهم على مواقفهم النقدية وإن كانت موضوعية ووطنية.
-5-
هذا المقال ليس مديحاً للأساتذة المتقاعدين في أوجهم، ولا دفاعاً عن وداع قسري موجع، كما أنه ليس هجاء لنظام جامعي عليه أن يبادر ويقود ويدافع عن مشاعله العلمية لا يدفع بهم لإجراءات الجهاز التنفيذي الميكانيكي في التعامل مع الموظفين ولو كانت طبيعة عملهم وتأهيلهم المعرفي تقتضي استثمار خبراتهم واستعدادهم المعرفي للعمل لآخر قطرة, بل هو موقف نقدي موضوعي مقصود لمراجعة الجامعة لنظامها التقاعدي كما أنه مطلب وطني يجب أن يرد فيه الاعتبار لأساتذة الجامعات فلا تحرم الجامعات طلاباً وأساتذة شباباً من خبرة القوى المعرفية المخضرمة المجددة، وهي بكامل طاقتها المعرفية والعلمية.