فضل بن سعد البوعينين
في إجابته على سؤال لمراسل «بلومبرغ» حول إمكانية العيش في مدينة نيوم؛ أشار سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز إلى إمكانية العيش في المدينة بالنسبة للسعوديين والأجانب؛ شريطة شرائهم منزلاً ما يعني استهلاك الطاقة وإنفاق المال على سلع التجزئة وعلى الترفيه؛ وبالتالي فهم مستثمرون وسائحون في ذات الوقت. باتت فلسفة الاستثمار؛ التي تعتمد المشاركة بين القطاعين الحكومي والخاص؛ تحكم المدن المتخصصة حديثة الإنشاء؛ والمشروعات الضخمة؛ ومنها المشروعات السياحية.
فلا يمكن للحكومات؛ مهما أوتيت من ملاءة مالية؛ أن تضخ مجمل الاستثمارات المطلوبة لإنشاء المشروعات السياحية الكبرى والمدن المتخصصة؛ ولا يمكنها؛ وإن توفرت لها الملاءة أن تضمن تسويق تلك المدن أو المشروعات الضخمة وضمان نموها واستدامتها.
لذا تسعى الحكومات جاهدة لوضع الرؤية الشاملة للمشروعات المستهدفة؛ وفق دراسات مستفيضة؛ ومن ثم توفير الأراضي اللازمة لإقامة المشروع؛ ووضع التصاميم والمخطط الشامل؛ والأنظمة الداعمة للاستثمار وضخ استثماراتها الخاصة في البنى التحتية والمرافق الأساسية لجذب المستثمرين المتخصصين واستثماراتهم الأجنبية والمحلية التي يمكن من خلالها استكمال المشروع وفق ما خطط له.
اعتمدت المملكة خلال العقود الماضية على قدراتها المالية لتنفيذ أغلبية مشروعاتها الإستراتيجية ما تسبب في الربط المستدام بين تنفيذ المشروعات التنموية المهمة والإيرادات الحكومية؛ فيرتفع عدد المشروعات المطروحة مع ارتفاع الدخل وتتضاءل بتقلص الإيرادات الحكومية.
عطلت فلسفة التمويل الحكومي أحادي المصدر كثيرًا من المشروعات المهمة؛ ومنها المشروعات السياحية الضخمة؛ فأولوية المشروعات بحسب الحاجة؛ فرضت واقعًا لا يمكن تجاوزه؛ وكذلك فعلت متغيرات الدخل التي ما أن تبدأ بالنمو حتى تتقلص لأسباب مرتبطة بأسعار النفط؛ أو بأزمات المنطقة التي استنزفت مداخيل الدول الخليجية واحتياطياتها المالية، واستثني من ذلك المشروعات النفطية والبتروكيماوية التي ارتبطت بشكل وثيق بالشراكات الأجنبية؛ فشكلت شذوذ القاعدة في المشروعات الحكومية.
وفي مدينة نيوم؛ العاصمة التجارية والاقتصادية الجديدة؛ يعيد الأمير محمد بن سلمان فلسفة الاستثمارات الحكومية؛ والقطاعات المستهدفة؛ من خلال استغلال الأصول المهملة ومنها المساحات الشاسعة من الأراضي العذراء؛ والمواقع الإستراتيجية التي تشكل قيمة مضافة للمشروعات المنفذة فيها؛ إضافة إلى تفعيل دور صندوق الاستثمارات العامة وتحويله إلى قاطرة استثمارية تنموية؛ وتعزيز الشراكات العالمية القادرة على تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030 ذات العلاقة بتعزيز المحتوى المحلي والاستثمار والسياحة والترفيه والتجارة والخدمات وربطها بمنظومة تقنية حديثة تستلهم مدخلاتها من الآفاق المستقبلية.
لم يكن اختيار القطاعات الاستثمارية التسعة في مدينة نيوم عشوائيًا؛ بل اعتمد على رؤية شمولية أخذت في اعتبارها التسربات الاستثمارية والمدفوعات المالية الخارجية التي يشكل تسربها خسارة فادحة للاقتصاد الوطني؛ وبالتالي إمكانية توطين الاستثمارات في القطاعات المستهدفة ووفق آلية حديثة توائم بين التوطين الداعم للاقتصاد وبين المتغيرات الحضارية والتقنية الثورية؛ وبما يعزز من مكانة «نيوم» العالمية وقدرتها على جذب المستثمرين والسائحين وتلبية احتياجاتهم الخاصة.
إضافة إلى ذلك؛ فإمكانية بناء عاصمة تجارية اقتصادية عصرية لا يمكن أن يتحقق من خلال المدن القائمة؛ التي تستنزف أموالاً طائلة للتطوير دون أن تحقق الطموح المرجو منها؛ وبخاصة في الجوانب التقنية ومحاكاة المستقبل. لذا شكل بناء مدينة جديدة على أرض خام خيارًا مثاليًا ومتوافقًا مع الاحتياجات المرسومة خاصة ما تعلق منها بالمدن الذكية ومتطلباتها والصناعات غير التقليدية والشراكات العالمية النوعية والشغوفة بتحقيق ثورة تنموية تقنية على أرض الواقع.
هناك جانب إستراتيجي آخر في فلسفة الشراكات الاقتصادية العالمية لا يقل أهمية عن المشاركة الاستثمارية وتوطين التقنية؛ وهو الجانب الأمني الذي يمكن أن تسهم الشراكات العالمية في تحقيقه حتى في أكثر المناطق توترًا. موقع مدينة «نيوم» الجغرافي؛ بين مثلث التقاء الحدود السعودية المصرية الأردنية؛ يضفي على المشروع والمنطقة الحاضنة بعدًا أمنيًا إستراتيجي. يمكن للشراكة العالمية أن تعزز الأمن والاستقرار الذي سينعكس إيجابًا على الاستقرار العالمي وخصوصًا أن ما يقرب من 10 في المائة من التجارة العالمية تمر بذلك الموقع المهم.
هل من الممكن أن يقود القطاع السياحي القطاعات الاقتصادية الأخرى؟. أجزم أن المنظومة السياحية المتكاملة قادرة على تحفيز أغلبية القطاعات الاقتصادية التقليدية وغير التقليدية؛ فهي القاعدة الجاذبة لرجال المال والأعمال، المفكرين، المبدعين، المبادرين؛ ومراكز الشركات وصناعة المؤتمرات والتسوق؛ والمحفزة على التوسع في الأنشطة التجارية والخدمية بأنواعها؛ والمحركة لقطاعي الطيران والموانئ؛ والضامنة لاستكمال مشروعات التنمية في المدينة على أسس استثمارية تسهم في زيادة حجم الناتج المحلي وخلق الفرص الوظيفية والاستثمارية؛ وتحقق في الوقت عينه؛ تنوعًا في مصادر الاقتصاد.