د. حسن بن فهد الهويمل
داء المشاهد كلها تدور حول: التكتلات الفئوية. والقراءات التآمرية. وتصفية المخالف: جَسَداً، أو سمعةً. ومهاد ذلك كله: اجتهاد من لا يملك حق الاجتهاد. والإرجاف في إدارة الاختلاف. وتعميق ذلك كله بالقراءة [الحداثية] القائمة على:
- النقد المجرد من مَقَاصِدِيَّة الهوية.
- واعتماد الألسنية اللغةَ هدفاً، لا وسيلة.
- وافتراض تعدد الدلالة التي تولّدت عنها التفكيكية.
هذه القراءة بتلك المواصفات تلغي المقاصدية. وتقر اللهو، واللغو، على حساب الفائدة، والحكمة. وبعض ذلك مربط القراءة المفتوحة.
هذه الدوَّامات التي تدير الرؤوس، وتغثي النفوس أطالت زمن التيه، والعماية. وقتلت الأنفس، ونفائس السمعة مع سبق الإصرار، والترصد، وتأليه الهوى.
وما من أُمة اختصرت نفسها في التعصب المذهبي. وتفرقت بدعوى النقاء العرقي إلَّا دَبَّ في مفاصلها الوهن، والفشل، وذهاب الريح.
وتلك بعض سمات عالمنا.
وكيف يتأتى النصر بالرعب في: غياب الاعتصام بحبل الله. وعدم الأخذ على يد السفهاء، ووقوع العلماء في رَدْغَةِ الأهواء.
في البدء كانت الكلمة. وحملتها، وحملة الأقلام هم صمام الأمان. متى أخذوا مهماتهم بالحكمة، والحلم، والأناة، وبُعْد النظر، وفصل الخطاب.
المتكئون على الأرائك حين يقولون، أو يكتبون، إنما ينسجون لحمة الأنساق الثقافية، ويصنعون الرأي العام، ويكرسون القيم، والمبادئ: السوية، وغير السوية. وما لم يبادر الناصحون مهماتهم استبَدَّ المغرضون بالرأي العام، فأصمُّوهم، وأعموا أبصارهم.
لقد تخلى العلماء، والمفكرون مِنْ عَبَدة الدرهم، والدينار عن النداءات الربانية:-
{كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}، {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}، {أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}، {إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}، فـ{عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
فلو عقلوا. وعلموا. وتفكروا. وأبصروا. وتفقّهوا. وتذكّروا، لكانوا على المحجة. وقامت بهم الحجة. وأطروا الأهواء، والشهوات، والغرائز، وما تهوى الأنفس.
العلماء الربانيون هم وحدهم الذين يبصرون بنور الله:- {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء}.
وعَضُدَ أولئك أنّ الدين الإسلامي ليس عاطفياً، ولا واحدي الرؤية. وإنما تركيزه على العقل، والفكر، والتدبُّر، ومن ثم فالأزمة أزمة فهم، لا أزمة مبادئ.
مشاكلنا تتجذّر، وتَشِيع في غياب تلك التوجيهات الربانية، التي يتخلى عنها المتصدرون للقول في الشأن العام. ومن هنا جاءت كوارث الأمة، ومصائبها الجسام.
الله الذي عَلَّم بالقلم ما لا يعلمه الإنسان، إنما عَلَّمَه عن طريق من يَحْمِل القلم. والقلم يحمله العلماء:- و[الخط يبقى زماناً بعد كاتبه].
فهل هم حين حملوه، أخذوه بحقه، وتوخّوا الوسطية، والتفسُّح، وجمع الكلمة، وتقوية اللحمة الفكرية، وتنوير الرأي العام، على هدي من:- [بلِّغوا عني ولو آية]؟.
أم أنهم آثروا مصالحهم الحزبية، والشخصية، والطائفية، وغَلَّبوها على مصلحة الأمة؟.
لو أنصف صنّاع الكلمة من علماء، ومفكرين لأراحوا، واستراحوا، وجمعوا كلمة العامة، ولكنهم عُنوا بمصالحهم الذاتية، وكسب الأتباع.
وحين أغوتهم الشهرة، والشهوة، واجتالتهم شياطين اللعب، نسوا كلمة الحق، وشُغِلوا ببناء الذات، وتكريس الانتماء الطائفي.
لقد سادت الأثرة، والأنانية، وغلبت الغرائز، والشهوات، وتألّهت الأهواء، وأصبح المكتسب المعرفي طاقة لتحقيق الرغبات الذاتية.
الناصحون العقلاء من حَمَلَة الكلمة لا يكونون عاطفيين، ولا متعصبين، ولا موقظين للفتنة، ولا مزكين لأنفسهم، إذا دخلوا مع غيرهم في جدل هَادَنوُا، وتَارَكُوا على حد:-
{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}. فذلك هو منهج الإنصاف، والتطمين، وإحراج المجادل في آن.
لقد بليت مشاهدنا بأضوائيين، يستبقون بؤر الضوء، والتوتر. وبمنتفعين يَعْرِضون قدراتهم في سوق النِّخاسة الفكرية. وبمتعصبين يعيدون مقولة:- [كَذَّابُ ربيعة أحبُ إلينا من صادق مضر]. وبمتشددين يُضَيِّقون واسعاً.
والمشاهد الإعلامية، والسياسية، والفكرية وَلُوْدٌ، غَيْرُ ودود، تنتج بين الحين، والآخر أشأم الناس، وأكذبهم، ليكونوا دعاة سوء على أبواب الفتن. يقلبون الأمور للغوغاء. ويصرفونهم عن قصد السبيل، إلى بنيات الطريق، التي حذّر منها الرسول صلى الله عليه وسلم.
إنهم أراذل أقوام تَخُبُّ، وتَضَعُ في التيه، والعماية. وهي بممارساتها الضالة المضلة تحسب نفسها على سدة التاريخ، في حين أنّ مكانها الطبيعي مزبلته.
وأوساطنا المهتاجة يؤزها علماء متَبَحِّرون، وآخرون متسطّحون، يجعلون الحليم حيراناً من تصرفاتهم.
ومن حولهم وجوه إعلامية تبني أمجادها بالكذب، والتلفيق، والتلون الحرباوي، والضحك على البسطاء.
الخطورة ليست في الأتباع الجهلة الموفضين إلى نصبهم ببلاهة. الخطورة فيمن نتوسم فيهم رجاحة العقول، وغزارة المعارف، وطول التجارب. ثم يخدعهم السراب، ويُغْويهم الوهم، وتضلهم الترهات.
لقد سمعت بامتعاض شديد كلاماً من قامة علمية، وأكاديمية كـ[أحمد الكبيسي] ينال فيه من الحركة الإصلاحية في [نجد]، ويتهم المصلح بالعمالة. وما كان بودي الاهتياج في وجهه، ولا استعداء السلطات القانونية عليه، ولا توجيه الاتهام له.
- فهو إما جاهل بوضع الحركة الإصلاحية.
- أو مجنّد لمحاربتها، يقبض ثمن المصداقية.
ورجل تلك احتمالات وضعه، يوضع أمام نفسه، بحيث تُقَدِّم له الحركة من خلال كتب صاحبها، لا من خلال ما كُتِب عنه. وتُبْسَط له أوضاع [نجد] من قبل، ومن بعد. وعند إذ يُدْرِكُ فداحة جهله، أو وضوح كذبه، وافترائه، وعمالته، وعمايته.
فإن كان صاحب موقف يبحث عن الحق، ويستبرئ لدينه، وعرضه سارع إلى الحق.
وإن كان مرتزقاً أجيراً عَرَفَ أنَّ العُقلاءَ اكتشفوا كذبه، وارتزاقه. وساعتها يتضاءل أمام نفسه، ويدرك حجمه القميء.
ذلك مثل نضربه. وفي المشاهد عشرات [الكبيسيين] الذين يخادعون الله، وهو خادعهم. ودعك من [وجدي غنيم]، و[أحمد الريسوني].
ما نودّه من العلماء، والمفكرين، والإعلاميين النزيهين تعرية المرتزقة، وفقهاء السلاطين، وعبدة الأحزاب، الذين يُزَوِّرون الحقائق، ويفترون الكذب، ويقولون على الله ما لا يعلمون.
إنّ مناهج القراءة الحديثة، ونظريات التلقي، والتعصب المذهبي، والمتاجرة بالإمكانيات حين تتحكم بالمشاهد، أو يتحكم بها المرتزقة {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}، ويتعمّدون التضليل، والشرذمة، والتحول من تضافر الجهود للبحث عن الحق إلى تضليل الرأي العام. وجعل بأس الأمة بينها شديداً.
والخلاص في استقامة العلماء على منهج الحق. وتوقي بطر المعرفة، وصيانة العلم من الابتذال، [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ]. وصان الأمة من ورائهم.
لقد قلت:- إنّ أزمة الأمة [أزمة حكَّام]، و[أزمة وعي]. ولا أتردد بإضافة. [أزمة علماءٍ]، يخونون أماناتهم.