د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
أقنعتني جولة صغيرة في أحد شوارع صناعية الرياض، بأننا نخسر الكثير مع نظام الكفيل المطبّق حالياً، الذي أعتقد أنه نظام ولو كان جيدًا استغله بعض المواطنين والمواطنات بشكل سيئ. فكلفته الحقيقية غير المنظورة أكبر من كلفته المنظورة. لما ذكرت المواطنات ولا علاقة لهن بالصناعة والنجارة والحدادة؟ لأنّ معظم الورش والمناجر والمعامل تحمل أسماء مثل: فهدة، سعيدة، مها، وضحى .. الخ. بينما العاملون فيها عمالة أجنبية بالكامل. بقالة تموينات كتب عليها بالأردو بالخط العريض «سوبر ماركت للأكل البنقالي والباكستاني والهندي» تليه ترجمة بالعربي، وفي الأعلى كُتب بخط صغير صاحبتها مها بنت فلان الفلان من السعودية. أسماء بريئة تستخدم لأغراض غير بريئة.
ورش ومعامل تدر ذهبًا تمتلكها عمالة خارجية بالكامل، وإلى جانب كونها تستر مخالف لأنظمة تشكل خطراً مستقبلياً محدقاً بالمجتمع السعودي واقتصاده. فهي تشمل الأنشطة الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة التي تشكل البنية التحتية للنشاط الاقتصادي للبلاد مملوكة بالكامل لأجانب، وريعها وأرباحها تذهب بالكامل للخارج. ولو، لا سمح الله، اختار هؤلاء الرحيل لأي سبب انشلت في مدننا كثير من المهن الحرفية والصناعية وتضرر الاقتصاد بشكل كبير. مقدار المال الذي تدره هذه المحلات والورش لا يعرف عنه معظم الكفلاء ناهيك عن شبابنا العاطل. هذه الورش معاهد عملية لمهارات قابلة للاستثمار في أية مجتمع. والواقع أنّ بعض الوافدين الحديثين للمملكة استثمروا مهاراتهم فور وصولهم مباشرة في أعمال صغيرة ومتوسطة، بينما بقي الكثير من أبنائنا عاطلين فتوجّه الكثير منهم لقطاع المطاعم المتنقلة أو ما يسمّى بالشاحنات الغذائية التي اكتظت بها شوارعنا.
استثمرت المملكة أموالاً هائلة لسنين طويلة في قطاع التعليم الفني والمهني، ولكن وللأسف دونما نتائج تذكر على مستوى الواقع. ولم يكلف أحد نفسه بدراسة وتقييم أسباب هذا الفشل، وبدلاً من ذلك استمررنا في توقيع عقود فلكية مع مؤسسات مهنية من أكثر الدول تقدمًا، لتدرب أبناءنا على مهارات تتجاوز حاجات مجتمعنا ويتطلب الاستثمار فيها مبالغ طائلة. والهروب للأمام للأسف أسلوب أبدعت فيه كثير من مؤسساتنا التعليمية، فبدلاً من تقديم الخدمة الواقعية المطلوبة نقفز على الواقع بأهداف طوباوية لا يمكن تحقيها تلهينا عن أهدافنا الواقعية الحقيقية حتى انتهاء فترة تكليف المسئول. والجميع يعرف أنه عندما دعم الملك عبد الله - رحمه الله - التعليم بمبالغ ضخمة لتحسين مستواه، قفز بنا بعض المسئولين على الأهداف المطلوبة إلى تحقيق «اقتصاد المعرفة» الذي نجهل ماهيته حتى حينه، فلا وصلنا لاقتصاد المعرفة الطوباوي، ولا تحسن مستوى مؤسساتنا التعليمية الواقعي.
الشباب يحتاج لمهن واقعية يحتاجها مجتمعنا، ويحتاجها سوقنا، ولكن مرت وللأسف أكبر طفرة عمرانية في تاريخنا ولم يستفد منها إلا العمالة الأجنبية وكفلاؤها. والكفلاء بالطبع يقتاتون على الفتات الذي تضيفه العمالة في نهاية الأمر على المستهلك السعودي. قابلت نجارين يمارسون مهارات بعضها يحتاج لتدريبٍ وذكاءٍ متوسط ولكنها تبيع منتجات بأسعار مغرية، وسبق وقابلت كهربائيين يمارسون العمل كيفما اتفق ويجنون ذهباً، بعضهم وفد عاملاً يفتقد لأي تدريب وتحول لمعلمٍ يستورد عمالة كثير منهم من أقاربه على بطاقة كفيلة. قابلت مبلطين من فئة المتدربين الجيدين يحصلون على أعلى دخل في العالم في مهنتهم لأنهم فقط يجيدون مبادئها ولا يغشون. وغيرهم، وغيرهم ممن تعلموا الحلاقة في رؤوس مواطنينا.
مهمة التدريب المهني لا تنحصر في توقيع الاتفاقات الباهظة الثمن مع المعاهد الأرقى في دول العالم لتنتج لنا مهنيين بمستوى ياباني، وألماني لكنهم عاطلون، بل أن تنتج مهنيين على مستوى عالٍ يلائمون واقع السوق السعودي وخصوصيته، والأهم أن ينسق التعليم الفني مع كافة الجهات المختصة لضمان حصول خريجيه على عمل، ومنع منافسة عمالة المتسترين لهم. وإذا كان التستر شراً لا بد منه فليكن تستراً على سعودي بدل الأجنبي. التدريب المهني ضرورة لا استغناء عنها لأية اقتصاد ولأية رؤية اقتصادية مستقبلية واقعية تطمح لنقل المجتمع لأهداف ملموسة. ولكن لا يمكن لأيّ تدريب مهني أو أكاديمي أن ينجح إذا كان خريجه لا يعرف أين يتوجه لممارسة ما تعلّمه، وإذا كان الكفلاء المتسترون يستوفدون الجميع من كافة أصقاع الأرض لمنافسته بدون تدريب وبأجور متدنية. ويكفي فقط تخيل لو غادر هؤلاء الوافدون دفعة واحدة ورحلت معهم مهنهم ومهاراتهم ووجدنا أنفسنا في حالة يرثى لها لتعويضهم. فالمهنة في اليد أمان من الفقر، ليس للفرد فقط بل للمجتمع.