تُسمَّى الفترة التاريخية التي سبقت بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو قرن ونصف قرن أو قرنين تقريباً بالعصر الجاهلي. وعند البعض، لم يكن الجهل (نقيض العلم والمعرفة) هو سبب تسميتها بهذا الاسم، بل كان الجهل (نقيض الحِلم أو إساءة التصرف والحمق)، هو سبب تسميتها، بينما يُرجع البعض الآخر هذه التسمية لسبب جهلهم الدينيّ، وعبادتهم الأصنام، وابتعادهم عن الحنيفية القويمة ملة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والحقيقة أن العرب كانوا على علم ودراية ومعرفة بكثير من العلوم والفنون، والصناعات، والآداب، وكانوا أصحاب حضارة وفكر. ويدل الموروث الأدبي، والتراث الثقافي الشفهي للعرب، وما تخلّف عنهم من تراث مادي ثابت يبوح به ظاهر الأرض وباطنها، على أن حياة العرب لم تكن حياة بداوة وحسب، كما كان ينظر إليها البعض، بل كانوا أصحاب حضارة تحدثت عنها مراكز عديدة في جنوب الجزيرة العربية وشمالها، وشرقها وغربها ووسطها.
هذه المراكز الحضارية تركت لنا تراثاً مادياً ينطق بما وصل إليه العرب من رقي في حياتهم المادية افتقرت إليه أماكن أخرى في الجزيرة العربية اعتمدت في حياتها على البداوة والتنقل والترحال، إلا أنها جميعاً قد تركت لنا في الوقت نفسه تراثاً شفهياً محفوظاً يستعصي على الضياع، يتمثل في الموروث الأخلاقي بثرائه وتنوعه، والأدب العربي (شعره ونثره وأمثاله)، والعادات والتقاليد، والفنون التعبيرية من أهازيج وغناء وموسيقى، والفنون الأدائية من رقص، والفنون الحرفية وغيرها. وجميعها ترسم صورة واضحة عن الإنسان العربي، وكيف كان يعيش، وكيف كان يفكر، وكيف كان يتعامل مع غيره ومع البيئة المحيطة به.
والموروث الأخلاقي للعرب قبل الإسلام ينطق برقيه تراثُهم الأدبي على الرغم مما شاع بين العرب من أخلاق سيئة ذميمة جاء الإسلام ليجتزها وينقّي المجتمع منها. وقد كان للبيئة الجافة، شحيحة الرزق، ولتقلباتها، تأثيرها السلبي على حياة العربي فجعلتها غليظة قاسية، وتسببت في انتشار أخلاق سيئة وعادات ذميمة فردية وجماعية، منها: العبودية، والإغارة والتعدي، والنهب والسلب، والتعصّب القبلي الأعمى، وشرب الخمر، ولعب الميسر، ووأد البنات، وأكل الربا وزواج زوجة الأب... وغيرها من العادات التي تتنافى مع الفطرة السليمة وتعافها النفس البشرية. ورغم ذلك كان للعرب أخلاق حميدة وخصال كريمة اشتهروا بها وانتشرت بينهم انتشاراً واسعاً فحفلت بها أشعارهم، وسارت بها أخبارهم، جُبلوا عليها أو تخلقوا بها، وكان منها ما اجتمعوا عليها أو كادوا. ومن هذه الخلال الحميدة: الكرم والجود، والصدق الوفاء بالعهد، والشجاعة، والمروءة، ونجدة المظلوم وإغاثة الملهوف، وصلة الرحم، واحترام الجوار... وغيرها.
ولقد جاء الإسلام ليقضي على ما شاع بين العرب من معتقدات باطلة، وصفات ذميمة، وسلوكيات خاطئة، وأخلاق غير فاضلة، ويعيدهم إلى الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها؛ كما جاء ليقوّم بعضها ويهذبها، وليعزّز ويتمّم مكارم الأخلاق التي تخلَّقوا بها أو جُبلوا عليها أو ورثوها من الحنيفية ويقرّها، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: «إنما بُعثت لأتممَ مكارمَ الأخلاق».
والكرم خلق من الأخلاق الكريمة التي يقدّرها الإنسان منذ القدم، وأصل الكرم نزاهة النفس وترفعها وسخاؤها. وكان الكرم عند العرب محلّ تقدير وافتخار ومدح؛ لما فيه من الإيثار، والبذل، والعطاء والسخاء. وكان العرب يمقتون البخل وينكرونه ويذمون الشحّ والحرص وينتقصون من يتصف بها؛ لأنه مزر بأخلاق الرجال.
ورغم ما عانته البيئة العربية من القحط والجدب والجفاف، وما اتصفت به الحياة من الفقر، وشظف العيش، إلاّ أن ذلك لم يحل دون أن يتحلى العربي بشيمة الجود والكرم والضيافة، والإيثار، فقد ينحر العربي إبله أو ما يملك لإكرام ضيفه. والتصقت بالكرم خصلة كريمة أخرى وهي الضيافة، وكان استقبال الضيف وإكرامه قد يرتقي في قيمته إلى الحياة أو الموت، فقد يجد العربي نفسه، في سفره وترحاله، وحيداً في صحراء قاحلة جدباء لا طعام فيها ولا ماء يوشك على الموت عطشاً أو جوعاً، حتى إذا وجد من يستطيع ضيافته كتبت له الحياة. وكان العرب، من البدو خاصة، يوقدون النار لمساعدة الضالين في الفيافي للوصول إليهم، فيُؤمنونهم، ويكرمونهم. وفي ذلك يقول الحطيئة ممتدحاً:
فنعم الفتى تعشو إلى ضوءِ نارهِ
إذا الريح هبّت والمكانُ جديبُ
كما كان الكرم دلالة على السيادة والشرف، يقول حاتم الطائي:
يقولون لي أهلكتَ مالكَ فاقتصد
وما كنتُ لولا ما تقولون سيّدا
ولهذا كان الكرم والضيافة من الشيم النبيلة في المجتمع العربي قبل الإسلام، وكان البخل وعدم القيام بواجب الضيافة موضع ذم وتقبيح بين العرب. وكان العرف أن مدة الضيافة ثلاثة أيام، وثلاث ليال.
ومن العرب من ذاعت شهرته بالكرم والجود والضيافة، وكان أشهرهم في ذلك حاتم الطائي (ت 605م/ 46 ق.هـ)، الذي ضُرب به المثل في الكرم. فيُروى عنه أنه كان إذا أهلّ شهر رجب نحر كل يوم بعضاً من إبله، وأطعم الناس، وكان إذا اشتد البرد أوقد ناراً حتى يهتدي بها الضال والمسافر والغريب فيجدون عنده المأوى والطعام. وكانت في داره قدور كبيرة الحجم لا تنزل عن النار أبدًا، لكثرة ضيوفه والمترددين عليه.
وكان حريصاً على استضافة الضيوف لدرجة أنه قد يعتق عبده مقابل استضافته لضيف، يقول حاتم الطائي لغلامه في ليلة باردة الريح، كما رُوي عنه:
أوقد فإن الليلَ ليلٌ قرُّ
والريح يا غلامُ ريحٌّ صرُّ
إن جلبت ضيفاً فأنتَ حرُّ
ويُذكر أن رجلاً سأل حاتم الطائي، فقال: «هل غلبك أحد في الكرم؟ قال: نعم غلام يتيم من طيء نزلتُ بفنائه، وكان له عشرة أرؤس من الغنم، فعمد إلى رأس منها فذبحه، وأصلح من لحمه، وقدم إليّ وكان فيما قدم إليّ الدماغ فتناولت منه فاستطبته. فقلت: طيب والله، فخرج من بين يدي وجعل يذبح رأساً رأساً ويقدم لي الدماغ وأنا لا أعلم، فلما خرجت لأرحل نظرت حول بيته دماً عظيماً وإذا هو قد ذبح الغنم بأسره.
فقلت له: لم فعلت ذلك؟
فقال: تستطيب شيئاً أملكه فأبخل عليك به، إن ذلك لسُبة على العرب قبيحة!
قيل يا حاتم: فما الذي عوّضته؟
قال: ثلاثمائة ناقة حمراء وخمسمائة رأس من الغنم
فقيل: إذاً أنت أكرم منه
فقال: بل هو أكرم، لأنه جاء بكل ما يملك وإنما جدتُ بقليل من كثير.
واشتهر من قريش ثلاثةٌ من أجواد العرب، قيل لهم أزواد الركب، ولم يسم بذلك غير هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد، وهم: مسافر بن أبي عمرو من بني عبد شمس، وأبو أمية المغيرة من بني مخزوم، وزمعة بن الأسود بن المطلب.
كما كان عبد الله بن جُدْعَانَ التيميُّ، صاحب حلف الفضول، من الكرماء الأجواد قبل الإسلام، وقد جهّز ألفاً من بني كنانة في حرب الفجار، وكانت له جِفَان، أو جفنة، كبيرة يأكل منها القائم والرَّاكب على بعيره. وذكروا أنه كان يطعم التمر والسويق (الطعام المعمول من دقيق الحنطة)، ويسقي اللبن. وفي حديث مقتل أبي جهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لأصحابه تطلبوه بين القتلى، وتعرفوه بشجة في ركبته فإني تزاحمت أنا وهو على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت فأثرها باق في ركبته فوجدوه كذلك.
وقد مدحته العرب بأحسن المدائح، وقال فيه أمية بن أبي الصلت:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حباؤك إن شيمتك الحباءُ
إذا أثنى عليك المرء يوماً
كفاه من تعرضه الثناءُ
والحِبَاءُ: أي العَطاء، أو ما يُكْرِم المرءُ به صاحبَه، ولقد قال ابن
جُدْعَان واصفاً كرمه وجوده:
لا أحبسُ المالَ إلَّا ريث أتلفه
ولا تغيِّرني حالٌ عن الحالِ
وعندما كبر سنه، منعه بنو تيم أن يعطي شيئًا مِن ماله، فكان إذا أتاه الرجل يطلب منه قال له: ادن منِّي، فإذا دنا منه لطمه، ثمَّ قال: اذهب فاطلب بلطمتك أو تُرضى، فترضيه بنو تيم من ماله. وفيه يقول القائل:
والذي إن أشار نحوك لطمًا
تبع اللَّطم نائلٌ وعطاءُ
وكان من كرم العرب أيضاً أنهم كانوا يتحملون عن طيب خاطر الديّات الكبيرة عن القتلى حقناً للدماء، وإيثاراً للسلامة، وتخفيفاً عن ذوي العسرة من أبناء قبائلهم، وكانوا يتنافسون في ذلك ويعتبرونه من دلائل الشرف والمروءة، وقد عبّر عن ذلك الأخنس بن شريق، من بني زهرة، فقال: « تنازعنا نحن وبنو مناف الشرف، أطعموا الطعام فأطعمنا، وحملوا الديّات فحملنا، وأعطوا فأعطينا فكنا كفرسي رهان».
ولقد جاء الإسلام ليقرّ أخلاق العرب من الكرم والعطاء والسخاء ويعزّزها، وينقّيها مما علق بها من شوائب، ويقوّمها مما أصابها من عوج. ولعل فيما يروى عن قصة أسر «سفانة» ابنة حاتم الطائي وحديثها مع النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدل على تقدير نبي الإسلام لهذه الأخلاق الحميدة. فقد وقعت في الأسر، بعد غزو المسلمين لبلاد طيء، وعند قدومها إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع الأسرى، قالت له: «يا محمد! إن رأيت أن تُخلّي عنّي فلا تشمت بي أحياء العرب؟! فإني ابنة سيّد قومي، وإن أبي كان يفكّ العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرّج عن المكروب، ويفشي السلام ويُطعم الطعام، فارحموا عزيز قوم ذل».
فقال لها النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «هذه صفة المؤمن حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحّمنا عليه، خلّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق».
ولمّا كانت الأعمال بالنيّات، وكان لكل امرئ ما نوى، كانت النية هي معيار قبول العمل. فإذا كان الكرم والجود والعطاء نابعاً عن رغبة في رضاء الله الرازق والمعطي، وتقرب إليه بما أجاد به عليه، وإيماناً بقيمة العطاء، فله من الأجر العظيم، أما إذا كان ليقولَ الناسُ عنه محسناً جواداً كريماً فسوف يُقال، ولا أجر له في الآخرة. فإن أرقى مراتب الكرم والضيافة هي الإطعام لوجه الله لا يبتغي المطعم من ورائه جزاءً ولا شكوراً.
وربما كان هذا مكمن سؤال عدي بن حاتم الطائي، بعد إسلامه، فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: «يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم، وكان يفعل ويفعل، قال: إن أباك أراد أمراً فأدركه - يعني: الذِّكر». رواه أحمد (30 / 200).
وسألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله ابن جدعان، وكان من بني تيم بن مرة وهو ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كما جاء في صحيح مسلم: فقالت: «يا رسول الله! عبد الله بن جدعان كان يطعم الجائع، ويقري الضيف (يضيّفه ويكرمه)، ويعين على نوائب الحق، هل ينفعه ذلك عند الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين». أي أنه ما مرت به لحظة قال فيها: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين, ومات كافراً. ويذكر صاحب البداية والنهاية «أنه كان في بدء أمره فقيراً مملقاً وكان شريراً يكثر من الجنايات حتى أبغضه أهله وقومه وعشيرته».
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم