سعد بن عبدالقادر القويعي
لبت روحه الطاهرة أمر ربها في موعدها المحتوم، وخرجت من الجسد الطيب حميدةً مبشِّرة - بإذن الله - برَوْح، وريحان، وربٍّ راض غير غضبان، بعد أن أُدخل العناية المركّزة بقسم عناية القلب في مدينة الملك عبدالعزيز الطبية للحرس الوطني؛ إثر أزمة صحية ألمّت به؛ فخُتمت صفحاته المشرقة، وسيرته العطرة، ومآثره الندية، - لا سيما - وقد قرن علمه بالعمل، وفكره بالسلوك، والذي تجلى في حياته عطاء متميزًا، وإسهامًا فاعلاً، ومدداً وافراً.
في زمن قلَّ فيه العلماء الربانيون الزاهدون في الدنيا، الراغبون بما عند الله من نعيم مقيم، من الذين أقامهم الله - تعالى - حماة للدين، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ولولاهم - بتوفيق من الله لهم -؛ لطمست معالمه، وانتكست أعلامه بتلبيس المضلين، وتدليس الغاوين، وما ذاك إلا لأنهم في سماء العلم نجومها، وفي الأرض هداتها، وحداتها، إلا أن عزاؤنا يكمن بما تركه الشيخ المبارك من مؤلفات، ونصائح، وتوجيهات، فهي الزاد العلمي، والذخائر النافعة التي يجدر بنا التأمل بها، والتفقه بمقتضاها.
عندما كنت طالباً في كلية الشريعة، - أحسبه والله حسيبه - أنه كان يعطينا من وقته، وعلمه، وأخلاقه، وأسلوبه الدعوي الكثير، ويوجِّهنا إلى الحكمة، والتأني بهدوء. وكان لبعد نظره يستشرف الأخطار؛ فيقطع دابر تلك الفتن بقطع الطريق على ما قد يؤدي إليها، بل كثيراً ما تراه متفائلاً بلا يأس، وميسراً بلا عسر، ومبشراً بلا تنفير. ولا يفوتني أن أشهد له بلزومه القول الحسن في الموعظة، والوسطية، والاعتدال في المنهج، وتجنب كل ما يثير الفتن - ما ظهر منها وما بطن. كما كان أبعد الناس من أن تغلب عاطفته على العقل، والتأصيل، وحسن العمل، والتدبير؛ ليكون سيره على نهج السلف الصالح من هذه الأمة، من الذين ورثوا علم النبوة، وتحملوا الأمانة، ونذروا أنفسهم؛ من أجل دين الله، والدعوة إليه.
إن المصاب بفقد العلماء مصاب كبير؛ لأنهم بمنزلة الأدلة على الخير، تُقْتفى آثارهم، وترمق أفعالهم؛ كونهم صمام الأمان؛ لتوجيه الناس الى الخير، وتحذيرهم من الشر، وتبينهم الحلال، والحرام. فهم النجوم التي يقتدى بها في ظلمات الحياة، وهم مادة حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وقوت الضمائر، وزاد القرائح. ومهما صيغت النعوت، والمدائح في فضائلهم، فلن نوفهم حقهم، إذ ليست الرزية على الأمة بفقد جاه، أو مال، وإنما الرزية أن يُفقد عالم ترسم خطاه - علماً وعملاً ودعوة ومنهجاً.
سنة الله ماضية في خلقه، إلا أن الله حافظ دينه؛ ولأنه بموت العلماء، والدعاة، وفقدهم تكمن المصيبة، وتعظم الرزية، فاللهم أجرنا في مصيبتنا، وعوضنا خيراً منها، وبارك في عقبه، وجُد عليه بعفوك، وإكرامك، وجودك، وإحسانك، وامنحه درجة الصابرين الذين يوفون أجورهم بغير حساب، وشفعنا فيه، واجمعنا، وإياه، والمسلمين في دار كرامتك، ومستقر رحمتك، فأنت أهل الوفاء، والحق.