كوثر الأربش
من نحنُ بلا «فكرة»؟
الفكرة منشأ كل شيء، إنها قد تطلقك للفضاء، وقد تغل قدميك. تخيل عقلك وعاءًا. وأن عليك أن تملأه بالأفكار. الفرق أن العقل يحتاج للاقتناع حتى يحتضن الفكرة. وهناك على بوابة العقل حارس، مثل كل الحراس، قد يكون نبهًا وفطنًا. وقد يكون خاملاً وهشًا.
الخطاب الشعبوي يعرف نوع هؤلاء الحُراس. أو بمعنى أدق، يعرف أي نوع أنت. إنه يختار أصحاب العقول التي يحرسها الخاملون والهشون. لهذا لا يحتاج للكثير من الذكاء. كما قلتُ في المقال السابق: إنه فقط يفتش في كومة الأفكار القديمة، ويغني على لحنها. في القرون السالفة، قبل الإنترنت، نشأت أفكار شعبية، (شعبية وليست شعوبية)، وهي ما يتداوله الناس في المجالس والبيوت والشوارع. كان حديث الناس ذاك مهمًا، بقدر أهمية شبكات التواصل اليوم. كان الناس أكثر جرأة من كتاب الصحف. الكتاب الذين فقدوا احترام الشارع بسبب محاباتهم وسكوتهم عن أي فساد قد يضر بالمواطن. منذ ذلك الزمن والكاتب الصحفي لم يلمس احتياجات الناس ولم يكترث إلا بالتزلف للمسؤولين وتلميع صورة المؤسسات. في حين كان الناس بحاجة ماسة لمن يلمس معاناتهم، يصرخ بما يريدون قوله، من يشبههم ويتحدث كما لو كان من صدورهم. ففي تلك الفترة، مع عدم وجود الإنترنت كان «الرأي» محصورًا في كتاب الرأي والإعلاميين أو لنقل النخبة. لهذا كان عبء النخبوي أن يمثل صوت الناس. لكنه أحبط الناس فأطلقوا عليه «مطبلا». المطبل: هو الذي يسير خلف مصالحه. وقد يجعل القبيح حسنًا في عبارة واحدة. قلّةٌ فقط من الكتاب والنخبة تمكنوا من التخلص من مخاوفهم، وأن يقولوا للفساد أنه فساد. وقد أحبهم الناس. لأنهم أخيرًا وجدوا من يخرج الكلام من صدورهم. هؤلاء كانوا أبطالاً حقيقين، تنويريين. قدموا لمجتمعاتنا نواة التغيير التي نجني اليوم ثمارها، دون أن نذكرهم أو نكرمهم. (إنني أنأى في هذا المقال عن ذكر أسماء كي يصبح التركيز على الفكرة لا على الأشخاص). ولولا ذاك لذكرت من التنويريين من يستحق التكريم مرتين: مرة للنقلة النوعية في الوعي العام، الثانية: الأذى والألم الذي تلقاه بسبب شجاعته وحسه النقدي المغامر. هذا ماحدث فعلاً في القرن الماضي: كان هناك كاتب تنويري، وآخر مطبل. لكن الشيء الذي لم ينتبه له كثيرون أننا في مرحلة أخرى! وأن الماضي ببساطة قد مضى! وأننا بحاجة لتصنيف جديد أو فهم جديد في ظل كل هذه التطورات، ليس أولها أننا نعيش مرحلة تطور ضخمة على جميع الأصعدة والمستويات، من الوزارة للمدرسة للشارع. هناك مسح مذهل للجودة وتقييم نزيه للأداء. حتى أننا شهدنا تغييرات وزارية كثيرة. رأينا قرارات جذرية لم يكن يتوقع كثيرون أن تصدر. أيضًا، لم يعد الكلام محصورًا في النخبة. في برامج التواصل نحن سواسية، ملايين محسابات حرة، بإمكانها قول ماتريد وقت ما تريد. هذان السببان جعلا من مسميي «مطبل ونزيه» فلكلور. اليوم هناك مغرد أو كاتب أو ناشط إيجابي، قيادي، مُغيـّر، ناقد، أعني النقد الذي يرى الإيجابيات كما يرى السلبيات. أصبح هناك كاتب يريد الحقيقة بحلوها ومرها. وكاتب مازال يعيش بذهنية القرن الماضي، مازال يعيش بأنموذج «التنويري البطل». لحظة، لنتوقف قليلا ونعود لموضوع المقال: كيف تصبح بطلاً شعبوياً. وهذا ما يهمك الآن. إذا كنت تريد أن تصبح بطلاً، كل ماعليك أن تسمي الكتاب الإيجابيين والموضوعيين: مطبلين! نعم، قل عنهم مطبلين وابقى أنت مستفردا بالساحة. اختلس كل عبارات التنويريين الحقيقيين السابقين. لا تنس أن تشتم كل شيء وتتهم بالفساد والمؤامرة وتضع في الرز عدس. لابد أن تنتقد كل قرار، لست بحاجة للاطلاع على دراسات الجدوى وأهداف المشاريع، انقد، فقط انقد، قل للعامة إن هناك مؤامرة. ثم اذهب واستمتع بالتغيير من حولك.
إذا، النصيحة الثانية لتصبح بطلاً شعبويًا: ابحث عن المطبلين. قل لكل كاتب مخلص، وطني، حريص، مسؤول، قل له إنه مطبل واجعل كل من حولك من البسطاء سعيدًا وفخورًا بك.