د. جاسر الحربش
هل نقول: وداعًا يا ودياننا الموسمية لأننا بصدد هجرة إلى وادي جديد قد نسميه وادي السيليكون؟. يبدو الأمر كذلك، فقد كانت ودياننا الطبيعية عبر الأزمنة معطاءة ولكن ريعية، لا تجود سوى بما تجود به عليها سماء الله، وموسمية لا تسيل بانتظام يمكن الاعتماد عليه للاستقرار والإعمار في المكان، وكل وادٍ في مواسم جوده لا يكاد يفي بحاجات القاطنين والظاعنين على ضفافه.
ثم حدث قبل ثمانين سنة أن نافس ودياننا الموسمية التراثية وادٍ جديد، ولنسمه وادي النفط، نافسها بسيل لا يهطل من السماء وإنما يتدفق من باطن الأرض وانتظام لا تتحكم فيه الأنواء والبروج. حينذاك بدأت هجرتنا الأولى، إن لم يكن جسديًا فمعنويًا بالكامل، وكانت هجرة الرغبة في الحضارة المستقرة من وديان المواسم المتقلبة إلى وادي النفط المستقر.
آنذاك ودعنا زراعة التبعيل على الأمطار الموسمية وعلى مياه الآبار المقدودة في جوف الأرض بالأيادي الصلبة، وانتقلنا إلى الزراعات الاستنزافية من الأعماق المخترقة بالحفارات العاملة بالوقود الأسود القادم من وادي النفط.
نعم تحققت لنا من هجرتنا الأولى مكاسب كثيرة في العمران والتعليم والرعاية الصحية، لكنها تحققت بتطبيقات مستوردة وأيادي مستقدمة، ولم نضف لها من عقولنا وعضلاتنا إلا القليل. المؤسف أننا استخدمنا مكاسب هجرتنا الأولى في تجفيف مياهنا الجوفية وتحويل بيئتنا الفطرية المتماسكة عبر آلاف السنين إلى مكبات نفايات وردميات وفي تقطيع المسالك الطبيعية للسيول والأمطار فأصبحت مدننا الحديثة تغرق في سيول لم تكن تغرق القرى الطينية القديمة.
اليوم تلوح لنا في آفاق المستقبل بوادر هجرة جديدة على الأقل بالمفهوم المعنوي، من وادي النفط إلى وادي جديد ولنسمه وادي السيليكون، ضمن مشروع عالمي ضخم اسمه «نيوم» في الركن الشمالي الغربي من الوطن غير بعيد عن وادي السرحان.
مع كل هجرة جديدة مصيرية تكثر الأسئلة، وكانت أسئلة الهجرة الأولى متواضعة وتدور حول لقمة العيش المستقرة أولاً وقبل كل شيء. الأسئلة حول الهجرة الجديدة إلى «نيوم» يجب أن تكون أكثر طموحات وأعمق، أسئلة استكشاف واجبة ومستحقة للحصول على خريطة الطريق إلى المستقبل الأفضل. فهمنا من أعلى مستويات المسؤولية في الدولة أن المرحلة مفتوحة على حرية الرأي والسؤال. ولذلك لا بد من تساؤلات تفرضها واجبات المواطنة وحقوق أجيالنا القادمة.
أول الأسئلة هل سيكون «نيوم» علميًا صرفًا على غرار وادي السيليكون في سان فرانسيسكو، أم مزيجًا من سان فرانسيسكو ولاس فيغاس؟.
السؤال الثاني يتعلق بحساسية الموقع الجغرافي مع الجوار، هل ستكون عليه اشتراطات سياسية وإستراتيجية؟.
السؤال الثالث عن تغطية النصف تريليون دولار، ما هي الحصص الاستثمارية في هذا المبلغ الهائل لكل متشارك، وهل تتم حصة المملكة من الاحتياطيات أم من الأصول أم من الاقتراض بفوائد؟.
هجرتنا الأولى إلى وادي النفط أحدثت نهضة ريعية، فهل نحن بصدد نهضة عقلية معرفية إنتاجية مع مشروع «نيوم»؟.