د. محمد عبدالله العوين
قامت الدولة السعودية منذ تأسيسها على منهج الإسلام برؤية وسطية معتدلة، وعلى توحيد مكونات هذا الوطن تحت راية واحدة في مزج حكيم بين الدين والدنيا والأصالة والمعاصرة والمحافظة على الأصول والانطلاق نحو التجديد، والإفادة من عقول وكفاءة وقدرات أبناء هذا الوطن من مختلف البيئات التي يتكون منها على امتداد فضائه الشاسع الواسع الثري وتنوع ثقافاته وتقاليده في مواءمة ناجحة بين ثقافة الحاضرة والبادية والسهل والجبل والساحل والصحراء، وقاوم الملوك المؤسسون - رحمهم الله - كل نزعات التطرف؛ بدءاً بالإمام عبد الله بن سعود الكبير بن عبد العزيز بن محمد 1229- 1233هـ الذي خاطب الدولة التركية الظالمة إبان حكم الطاغوت التركي محمود الثاني الذي حكم الدولة التركية من 1223- 1255هـ الموافق من 1808- 1839م ويتبين موقف التسامح والاعتدال من الإمام عبد الله بن سعود في رسالتين لطيفتين بعث بهما إلى الطاغوت التركي ونشرتهما مجلة «الدارة» في أحد أعدادها قبل سنوات ضمن دراسة علمية قام بها أحد الباحثين عن العلاقة بين الدولة السعودية والعثمانيين، وقد تجلت في الرسالتين أفكار الاعتدال ورفض التطرف وإنكار ما فعله بعض الجهلة من العوام الذين لا يمثلون اتجاه الدولة السعودية ، وأنه سيأخذ على أيديهم، وسيعاقبهم؛ ولكن الحاكم التركي المستبد لم يكن يريد أن تقوم للعرب قائمة ولا أن يتمتعوا بحكم ذاتي أو أن تشيد لهم نهضة فأمر واليه الانكشاري على مصر محمد علي باشا بإرسال الجيوش إلى الجزيرة العربية لإسقاط الدولة السعودية ، وقد ارتكب الغازيان الانكشاريان المراهق الأرعن إبراهيم باشا وأخوه طوسون وجنودهما الفظائع والموبقات واستحلوا الدماء والأعراض وخانوا ونكثوا العهود وقتلوا ومثلوا بمئات من الأمراء والمشايخ والفرسان والأعيان من نجد والحجاز وغيرهما، ثم أكمل الطاغوت محمود الثاني ما بدأه مولاه على مصر محمد علي باشا فمارس خسة ودناءة مع الأسير الإمام عبد الله بن سعود وزملائه المأسورين الأبطال لا يرتكبها إلا المجرمون وقطاع الطرق والبغاة مما هو معروف ومدون في كتب التاريخ في تسلط دنيء لا يمكن أن يمحوه تقادم الزمان من تاريخ ما يسمى بالخلافة العثمانية المستبدة، ويتضمن كتاب « الدرر السنية في الأجوبة النجدية « لعبد الرحمن بن قاسم 1288- 1349هـ ويتألف من ستة عشر جزءا نص الرسالتين.
وتسامح الدولة واعتدالها يتجلى أيضاً في الموقف المتشدد الذي ظهر في معالجة الملك عبد العزيز - رحمه الله - لقضية المحمل المصري 1344هـ حيث عاقب من تصرف تصرفا متطرفا من الحمقى والعوام والجهلة حين فاجأتهم الأغاني والأناشيد والطبل والزمر الصوفي المصاحبة للمحمل فاعتدوا على المحمل وتعرض أفراده للضرب والإهانة، وحين نمى ذلك إلى الملك عبد العزيز غضب غضبة شعواء وأمر بالقبض على من ارتكب الهجوم على المحمل فقبض عليهم وسجنهم وأدبهم ، وحمى المحمل في السنة الثانية 1345هـ/ 1926 م من أن يتعرض لاعتداء مماثل ، ثم اتفق مع الملك فؤاد الأول على أن تتكفل الدولة السعودية الناشئة بتأمين كسوة الكعبة وشؤون الحرم المكي الشريف وما يتطلبه ذلك من نفقات.
ولم يتوقف الأمر عند ما حدث للمحمل المصري من قبل المتطرفين والغلاة؛ فقد وقفوا معارضين ما اتخذه الملك المؤسس من خطوات سريعة لتحديث البلاد في مجالات مناهج التعليم النظامي والبرق والاتصالات اللاسلكية والعسكرية والعلاقات الدبلوماسية مع الدول الغربية والابتعاث والتصوير وغيره؛ فانتدب لمحاورتهم جمعا فاضلا من العلماء عام 1347هـ ودارت حوارات مدونة ومحفوظة كوثائق تاريخية ؛ إلا أن العقل المغلق أبى أن يتكيف مع العصر ويتخلى عما نشأ عليه من مفهومات جاهلة ؛ فاضطر الملك بعد شهرين من السجال والحوار العقيم معهم أن يعلن الحرب على من عرفوا أنفسهم بأنهم «إخوان من طاع الله» ودارت معركة «السبلة» المشهورة بالقرب من الزلفي 18 شوال 1347/ 30 مارس 1929م وانتهت بهزيمة المتطرفين والقضاء عليهم.
والحق أن التدين البدوي المتطرف عند فئة من عرفوا بـ»إخوان من طاع الله» قد اختلط وتمازج مع أطماع قبائلية سياسية ووله بالزعامة وبالمكاسب مغلفا ذلك بمشاعر دينية مندفعة وغير منضبطة.