د. محمد بن يحيى الفال
بسقوط الرقة شمالي سوريا تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية وخروج ما تبقى من عصابة تنظيم داعش الإرهابي مما كان يعتبرها عاصمة لخلافته المزعومة يكون حلم التنظيم الإجرامي بإقامة دولته قد تلاشى مع شعارها «باقية وتتمدد»، فهي لم تعد باقية ودخلت في المراحل الأخيرة لانحسارها في كل من سوريا والعراق ببقايا جيوب صغيرة في مصيرها للزوال في القريب العاجل. ولو أمعن المرء في تحليل العوامل التي جعلت من تنظيم إرهابي ينتهج فكر العصابات وكيف استطاع خلال فترة وجيزة من الزمن أن يسيطر على أجزاء واسعة وشاسعة من أراضي دولتين، لوجد بأن الأمر كان يحتاج لدعم مادي وأيديولوجي محترف وذي خبرة ممتدة في خلق القلاقل وإشاعة الفوضى، وهو ما تخصص فيه ومنذ ثورة الخميني عام 1979 ولعقود من الزمن الحرس الثوري الإيراني، الذراع العسكري الإرهابي لنظام الملالي بطهران. وبتفكيك العناصر المكونة للصورة بأجزائها المختلفة للعلاقة التي تربط الحرس الثوري الإيراني بتنظيم داعش لتأكدت هذه العلاقة من خلال ثلاثة محاور رئيسة، تاريخية، جغرافية وتكتيكات العمل الإرهابي.
ومع التدقيق في تاريخ نشأة تنظيم داعش نرى بدايته قد كان العراق مسرحها بعد سقوط نظام صدام ومع انحسار نفوذ تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين بسبب التواجد العسكري الأمريكي وبانسحابهم لاحقاً وتعمق النفوذ الإيراني في العراق والذي وجد حكومة موالية موالاة كاملة أضحى فيها الحرس الثوري الإيراني لاعباً محورياً في كل تفاصيل الشأن العراقي الداخلي، وتشكلت خلالها العديد من التنظيمات والمليشيات في كل أنحاء العراق، والتي قضت على سلطة الدولة المركزية في بغداد، وكانت نتيجة ذلك دوامة شرسة من العنف والقتل الممنهج على الهوية، وبدأ الأمر بأن ما كان يصرح به العديد من المسئولين الإيرانيين فيما مضى بأن العراق سوف يدفع ثمناً غالياً لحربه مع إيران، أضحى أمراً مشاهداً على أرض الواقع لما آلت إليه الأوضاع في أرض الرافدين من فوضى عارمة. وبعد أن أصبحت إيران مسيطرة على كل مجريات الأمور في العراق ومع بدء الثورة السورية ضد نظام الأسد ومع الانتصارات التي حققها الثوار بقيادة الجيش الحر ظهر للعالم فجأة تنظيم داعش وبقوة في العراق أولاً ثم في سوريا وبسرعة فائقة وليبدأ في تقويض تقدم الثوار والصراع معهم.
إن تزامن ظهور تنظيم داعش في العراق مع انتصارات الثوار في سوريا يؤكد بلا أدنى شك بأن الجهة الراعية له والتي دفعت به لواجهة الأحداث لم تكن سوى نظام الملالي في طهران بذراعها الإرهابي الحرس الثوري ، سعت بذلك إلى ضرب هدفين في آن واحد، الأول إنقاذ حليفها الاستراتيجي في المنطقة والمتمثل بنظام دمشق والثاني تدمير العراق وجعله يعيش في دوامة لا نهاية لها من العنف. ولو عدنا إلى الوراء وقبل تواجد أمريكا في العراق والذي عقب حربها على أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، نرى بأن هناك علاقة وثيقة جمعت بين العديد من قياديي تنظيم القاعدة الذي ورثه تنظيم داعش وبين الحرس الثوري الإيراني بعد فرار قياديي القاعدة من أفغانستان لإيران، وهذا الأمر أكدته العديد من التقارير الموثقة ومنها تقرير اللجنة الأمريكية الخاصة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر.
المنطقة الجغرافية التي نشأ وترعرع وازدهر فيها تنظيم داعش والمرتبطة بتاريخ ولادته هي العراق بداية ثم سوريا، وفي فترة سياسية مضطربة كان لحكومة طهران القول الفصل فيها، ونرى صورة ذلك واضحة جلية في سقوط مدينة الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية في أيدي بضع مئات من أفراد التنظيم الإرهابي الذي لم يجد أي مقاومة من الجيش العراقي الذي ترك المدينة وسكانها وانسحب منها، فهل هذا الأمر كان ليتم لولا أنه تم تدبيره من قبل جهة داعمة للتنظيم ولها المقدرة والقرار في اتخاذ مثل هذه الخطوة؟، ولم يكن في العراق حينها قوة تأثير على مجريات الأمور كما كان لحكومة طهران من خلال حرسها الثوري بقيادة قاسم سليماني.
وبمقارنة تكتيكات العمل الإرهابي المسلح لتنظيم داعش الإرهابي نجدها تكاد تتطابق مع التكتيكات التي ينتهجها الحرس الثوري الإيراني، ولعل أوضحها الرغبة الجامحة للتمدد أين ما كان ذلك ممكناً، وهو التمدد الذي اختاره التنظيم شعاراً لدولته المزعومة وهو نفس أيديولوجية الحرس الثوري الإيراني والتي نرى نتائجها في التمدد في العديد من الدول العربية، والتي كان آخرها اليمن. كذلك نرى تطابق أيديولوجياتها في تنفيذ أعمالها الإرهابية التي يقوم بها ما اصطلح على تسميته بالذئاب المنفردة، التكتيك الذي ابتكره الحرس الثوري الإيراني منذ البدايات الأولى لثورة الخميني 1979 يزخر بقائمة طويلة من الجرائم الإرهابية منها على سبيل المثال لا الحصر تفجيرات بيروت عامي 1983 و1984 ضد منشآت أمريكية وفرنسية دبلوماسية وأسفرت عن مئات القتلى من الأمريكيين والفرنسيين واللبنانيين وتفجير أبراج الخبر بمدينة الخبر في يونيو 1996 وأسفر عن مقتل 29 عسكرياً أمريكياً، ولقد طبق تنظيم داعش الإرهابي أسلوب الذئاب المنفردة المبتكر من قبل الحرس الثوري الإيراني، وذلك في سلسلة من العمليات الإرهابية امتدت لعديد من دول العالم من شرقه إلى غربه وشملت المملكة، الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، مصر، اسبانيا، ألمانيا، الكويت، الفلبين، تركيا، المغرب، مالي والنيجر. وبمثل هذه السلسلة الطويلة من الدول التي تعرضت لإرهاب تنظيم داعش التي تستدعي مواقف حازمة لمواجهتها، كان أن ابتكر الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما سياسة متراخية والتي أسماها بإستراتيجية القيادة من الخلف، بمعنى أن تتولى الولايات المتحدة دعم الدول في محاربة تنظيم داعش، وبدون مشاركة أمريكية مباشرة فعلية على أرض الواقع، وأضاف الرئيس أوباما بأن القضاء على تنظيم داعش سوف يحتاج لفترة زمنية قد تمتد لعشرين عاماً قادمة. بيد أن هذا كله تغير بين ليلة وضحاها ومع تولي الرئيس دونالد ترامب مقاليد السلطة وفي فترة زمنية لم تكمل عاماً واحداً وبانتهاجه إستراتيجية مغايرة تماما لإستراتيجية الرئيس أوباما في مواجهة داعش، إستراتيجية تكون فيها الولايات المتحدة وبنفوذها الدولي السياسي والعسكري في الخطوط الأمامية لمواجهة داعش فكانت النتيجة سريعة وفاعلة قضت على داعش بشكل شبه كامل في العراق واستردت الموصل من قبضته وسقطت الرقة عاصمة التنظيم المزعومة.
ولو تخيلنا ولوهلة بأن الإرهاب هو كائن شرير وهو فعلا كذلك وله رأس وذنب، والرأس يتمثل في الحرس الثوري الإيراني والذنب بتنظيم داعش، فقد أثمر التعاون الدولي في القضاء شبه الكامل على الذنب تنظيم داعش، وبأنه آن الأوان للقضاء على رأس الإرهاب الدولي المتمثل في الحرس الثوري الإيراني، والفرصة أمام العالم مُهيأة كما لم يسبق له من قبل لمواجهة إرهاب نظام ملالي طهران المتمثل بحرسها الثوري، وذلك بوجود قيادة سياسية أمريكية راغبة وجادة وحازمة في المضي قدماً نحو تحقيق ذلك، ويلاحظ بوادر ذلك بما قامت به وزارة الخزانة الأمريكية بتصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية، ومع أنها خطوة في الاتجاه الصحيح فإنها لن تكون كافية لمواجهة نظام تفنن في ابتكار الأساليب والخدع للالتفات على العقوبات التي تفرض عليه، والمحك الرئيس هنا هو ضرورة تفعيل آليات حازمة وصارمة لتعاون دولي فاعل لمواجهة الحرس الثوري الإيراني، وكما تم تطبيقه من مواجهة أثبتت فعاليتها قضت أو تكاد على تنظيم داعش الإرهابي.