لبنى الخميس
أجسادهم قوية.. عضلاتهم مفتولة.. بدلهم تعج بالأوسمة والنياشين.. لكن عقولهم حرفياً كانت مغسولة.. إنهم الجنود الأمريكيون العائدون من أسر الصينيين لهم خلال الحرب الكورية في عام 1950
فقد اكتشف الأمريكان أن مبادئ الجنود العائدين وقناعاتهم قد تعرضت للتلاعب وعقولهم قد تم السيطرة عليها.. حين لاحظوا اعتناقهم مبادئ الشيوعية بصورة ثابتة يصعب تغييرها.. وحين تم التعمق في الموضوع كشف الجنود بأن عملية غسيل الدماغ.. كانت بطيئة ومحنكة. يبدأها الصينيون بسؤالين عفويين.. ما الذي تحبه في وطنك؟ وما الذي تكره فيه؟ ويعاد طرح السؤال مراراً.. وحين يبدأ الجنود بسرد مساوئ وطنهم.. يمرر لهم الصينيون سيجارة كمكافأة غير معلنة.. أو يعرض عليهم حمام ساخن ينسيهم صقيع الشتاء البارد.. ليستلذوا بالنقد ويسهبوا فيه.. كل ذلك كان يتم دون صراخ أو قتال أو فرض.. فما أسهل أن تقتل عدوك.. وما أصعب أن تسقط مبدأه.
غسيل المخ.. هو أحد أساليب الإقناع.. الذي كان موضوع ورشة حضرتها قبل أسابيع في جامعة كولومبيا في نيويورك.. يقدمها بروفيسور قضى العقود الأخيرة من حياته مسخراً هذه المهارة الناعمة في مساعدة رؤساء دول ومدراء شركات ومؤسسات إعلامية لتمرير أجندتها، فضلاً عن كونه كان عضواً في فريق المفاوضات على الرهائن في الـ اف بي آي..
إحدى أهم مخرجات الورشة.. أن عملية الإقناع لا تأبه بقناعاتك وأفكارك أنت.. بقدر ما ترتبط بقناعات وقيم الشخص المراد إقناعه.. ومدى قدرتك على مخاطبتها والتأثير عليها.. فأسلوب إقناعك لوالدتك يختلف عن طريقة إقناعك لمعلمك أو مديريك.. أو لطفل يضج بالبكاء مصراً على شراء لعبة ! فإن عرفت نقاط قوته وضعفه.. وأدركت أهدافه وخططه.. نجحت في بناء الجسر الأول لغرفة عملياته الذهنية.. عقله.
أذكى المقنعين يدركون بأن الإقناع يعتمد على فهم ماذا يريد الآخر؟ ابدأ جلسة إقناعك لشخص ما.. بسؤاله عن أهدافه؟ وأجندة شركته؟ وخططه قريبة وبعيدة المدى؟ حسسه بأهميته.. ونوع في أسلوبك، وتأرجح بين المنطق والعاطفة.. فهناك من تقنعه الفكرة وتهزه الخطب الرنانة.. وهناك من لا يعبأ بالكلمات مقابل الأرقام والإحصائيات والنتائج.. وهناك وإن مزجت بين الكلمات الموزونة والأرقام الدقيقة لا يقتنع حتى يثق بك شخصياً.. لذلك إيضاح نواياك.. ومشاركة قيمك.. وسرد أسبابك بصدق قد يكون الطريق الأسرع للعبور إلى ضفة الاقتناع..
بالإضافة إلى تقنيات نفسية سهلة التنفيذ لكنها عميقة التأثير.. مثل تكرار ذكر اسم الشخص الذي تحادثه، فغالباً اسمك هو أثمن كلمة في قاموسك.. وإعادة صياغة كلمات من أمامك بطريقة تنحاز بالحوار لصالحك.. ومنح مشاعر الطرف الآخر أوصافاً وأسماء.. كأن تقول أدرك ما تشعر به من اندفاع وحماس أو إحباط وخوف أو قلق وتردد وأنا هنا لمساعدتك لتعزيز مشاعرك الإيجابية وتجاوز أفكارك السلبية.. فإذا خلقت أرضية من التفاهم والتعاطف نجحت في تمرير الكرة باتجاه الهدف.
أما إذا كنت تحادث جمهوراً أكبر.. متعدد القناعات ومتنوع الخلفيات الفكرية والتعليمية والاجتماعية.. فأمامك مهمة عنوانها «التنويع والتلوين» في الأسلوب والمحتوى.. ما بين سرد الحقائق والأرقام من نتائج وأرباح ملموسة.. وبين التحدث عن الرؤى والأحلام ودغدغة المشاعر الكامنة خلفها.. أو تمرير شيء من النكتة والفكاهة بين الحين والآخر.
أحد أكثر الوصايا التي يحض عليها خبراء التفاوض والإقناع.. هي أن تصل إلى قاعة الاجتماعات مبكراً.. لتقيس نبض القاعة.. وتقوم بحوارات جانبية عابرة مع بعض الحضور.. ملقياً نكتة هنا.. وسارداً قصة هناك.. تربت على كتف حسادك حيناً.. وتصافح حلفائك المحتملين أحياناً أخرى.. هذا ما يفعله كثير من السياسيين.. ومستشاريهم لقياس عمق النهر قبل القفز فيه.
في المقال القادم سأتناول مفهوم الإقناع الصامت، وأبرز تقنيات وزير الدعاية السياسية وخبير البروباغاندا في عهد هتلر جوزيف غوبلز.