د.عبد الرحمن الحبيب
إذا كان «نيوم» مشروعاً سعودياً اقتصادياً عملاقاً، فإن له أبعاد دولية تجعله حدثاً عالمياً سيسجله التاريخ الذي بدأ بالفعل بتسجيله على صدارة المواقع العالمية حتى بعد مرور أسبوع على تدشينه، فهو يأتي بتوقيت «اقتناصي» يمثل فرصة تاريخية نادرة لأنه يتزامن مع تغيرات إقليمية كبرى..
أحياناً، التوقيت المناسب للمشروع أعظم نفعاً من المشروع ذاته.. وفي تقديري، فإن مشروع «نيوم» بهذا التوقيت «الذهبي» ستكون له امتدادات دولية تؤثر إيجابياً بالنواحي الأمنية والسياسية والفكرية للشرق الأوسط والعالم بسبب تزامنه المتناغم مع التغيرات الكبرى بالمنطقة، فضلاً عن توقيته المناسب محلياً للمملكة.. وقد لا أبالغ إذا قلت إنه بذرة الخروج من كهف الماضي إلى فضاء المستقبل للمنطقة يزرعها قائد تاريخي اسمه محمد بن سلمان..
فما هي هذه التغيرات الإقليمية؟ هي تغيرات متنوعة لها أبعاد متداخلة، يمكن فرزها في ثلاثة.. البعد الأول هو الاستحقاقات السياسية الإقليمية الجديدة الناجمة عن تغيرات سياسية وعسكرية بالمنطقة. أوضح التغيرات هو اقتراب الحرب على داعش بدحره، وبداية عودة العراق لمحيطه العربي وإعادة ترتيب أولوياته. كما أن الحرب الأهلية السورية تقترب من الحلول السياسية وما يتطلبه من التجهيز لإعادة الإعمار.
ومن أهم التغيرات بالمنطقة هي المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس، مما يعني أن الأخيرة تبتعد عن إيران وقطر والمواقف المتطرفة، والأهم هو الانفتاح الواقعي والعملي لتسوية القضية الفلسطينية برعاية معسكر الاعتدال العربي. وبين هذين التغيرين الرئيسيين يمكن ملاحظة عدة تطورات أخرى، مثل: تقلص الدور القطري في دعم القلاقل بالمنطقة، والتقارب السعودي الروسي، وتصدر المسألة الكردية للمشهد السياسي، ورفع العقوبات الاقتصادية عن السودان لاكتمال عودته لمعسكر الاعتدال العربي..
هذا البعد يمثل بداية النهاية السياسية والفكرية للمشروع الإسلاموي المتطرف بالمنطقة بعد فشله الذريع واقعياً من الناحية السياسية، وإنسانياً من الناحية الأخلاقية.. وتراجع الدور الإيراني الذي يؤجج الاضطرابات ويتمدد من خلالها. إنه بداية الانتقال من بيئة التطرف إلى بيئة الاعتدال.. من خطاب الانغلاق الإيديولوجي الصدامي مع الآخر إلى خطاب الانفتاح التنموي المتعاون مع الآخر..
البعد الثاني هو الموقف الصارم للإدارة الأمريكية الجديدة ضد التمدد الإيراني واعتبار إيران المصدر الأول للإرهاب بالعالم، وما تبعه من عقوبات أمريكية اقتصادية على إيران والتعامل مع حزب الله كمنظمة إرهابية ومحاولة اقناع الحلفاء الأوربيين بذلك.. ولعل آخرها قبل أيام، إعلان الكونجرس الأمريكي بأغلبية ساحقة عن حزمة من «قوانين تهدف لتأديب قوات الحرس الثوري الإيراني وميليشيات حزب الله، اللتين تستخدمهما طهران لشن حروب وكالة بالشرق الأوسط.. وإعاقة الصفقات والتحويلات المالية التي يقوم بها حزب الله والحرس الثوري لتمويل عمليات إرهابية..» وفقا لما ذكره رئيس لجنة مكافحة الإرهاب بالكونغرس الأميركي. هنا اتفاق واضح بين الكونجرس والإدارة الأمريكية، أو كما ذكرت صحيفة واشنطن بوست: «تركيز الولايات المتحدة انتقل من داعش إلى مليشيات إيران.».. وليس من قبيل الصدفة أن يوفد الرئيس الأمريكي وزير الخزانة بإدارته لحضور «منتدى مستقبل الاستثمار» الذي أعلن الأمير محمد بن سلمان خلاله مشروع «نيوم».
في الوقت الذي تجر فيه إيران المنطقة لمشاريع الدمار عبر تصدير الثورة وحروب الوكالة وإشعال الفتن الطائفية فإن السعودية تقود المنطقة للخروج الإيجابي من دوامة التطرف الذي أنهك المنطقة عبر إيجاد بديل للهدم الإيراني بالبناء السعودي، تاركة حكومة الملالي وراءها تواجه العقوبات الاقتصادية واستنزاف مليشياتها الطائفية لموارد الشعب الإيراني..
البعد الثالث هو النقلة النوعية الصارمة لمكافحة الإرهاب التي شملت حتى الخطاب المتطرف؛ بعد انعقاد القمة الإسلامية - الأمريكية بالرياض، مثل إنشاء مركز مكافحة الإرهاب بالرياض، وما تلاها من إعلانات مستمرة لقوائم المؤسسات والأفراد الداعمين للإرهاب، وقادة الفكر المتطرف.. أكبر مثال على ذلك هو الموقف الحازم مع حكومة قطر بمقاطعتها إن لم تتوقف عن تمويل الجماعات المتطرفة واحتضان الأفراد الداعمين للإرهاب والدعم الإعلامي لخطابهم..
لقد ذكر سمو ولي العهد أثناء شرحه لمشروع «نيوم» بأنه «موقع ومكان للحالمين بعالم جديد.. مشروع يهدف إلى التعايش مع العالم، وإن المملكة ستقضي على بقايا التطرف، كما تعود للإسلام الوسطي المنفتح على العالم والأديان»، موضحاً أن مشروع الصحوة في الثقافة الدينية لم ينشر أصلاً في السعودية إلا بعد عام 1979. فنحن الآن نشهد بداية انفتاح جديد على العالم (ثقافياً واقتصادياً وسياسياً) ونهاية خطاب الصحوة المتشددة ومشاريعها السياسية المتطرفة وثقافتها المنغلقة وما تنتجه من خطاب كراهية ضد الآخر المختلف مما عرقل التنمية والتطور الطبيعي للمجتمع والتعايش السلمي مع الآخر..
السعودية الآن تمضي في البناء الاقتصادي الممنهج وفق رؤية واضحة وإستراتيجية متماسكة مدعومة بإرادة قوية من القيادة.. رؤية المملكة 2030 التي يقودها محمد بن سلمان تستغل فرصاً وإمكانات هائلة موجودة لدينا، وتسحق العراقيل التي وضعت لنا من الخطابات الماضوية المتطرفة، منطلقة نحو مستقبل جديد ومشرق.. حول الرؤية المستقبلة للسعودية، قال ساركوزي الرئيس الفرنسي الأسبق: «ما يحصل في رؤية السعودية 2030 هو عمل تاريخي، يتحد فيه القائد السياسي مع الأمير الشاب لخلق نهضة ستبهر العالم وتعيدنا لتذكر هذه اللحظات».