د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وفي مقابل «العار» و»الهجاء» بوصفهما مقياسين معتبرين في بيان «الأخلاق» المذمومة التي تكون أساساً لبناء الذنب، يأتي «المدح»، و»الفخر» بوصفها أيضاً أداتين لبيان الصفات الممدوحة، أو المحبوبة لدى الإنسان، وبوصفهما المثال الأخلاقي السامي الذي يحب المرء أن تظهر صورته عليه.
وإذا كان العرض هو ما يمدح به الإنسان أو يذم، فإن هذين الموضوعين يساويان السابقين (العار، والهجاء) في القيمة من حيث بناء الوعي الأخلاقي، فهما مع العار والهجاء يكملان التركيبة التي يتكون منها العرض؛ المدح والفخر يبنيانه، والعار، والهجاء يهدمانه.
وفي المقالة السابقة ذكرنا الصفات التي يمدح بها -على رأي قدامة- واستدركنا عليه صفة الكرم حيث إنها كانت أبرز الصفات التي مدح بها الشعراء ممدوحيهم، وحين ننظر في مدونة الشعر القديم نجد أن المدح لا يقتصر على هذه الصفات الأربع، ولا مع إضافة الخامسة إليها، فأبيات ابن قيس الرقيات التي يمدح بها مصعباً ونالت استحسان عبد الملك لا تدخل في الصفات السابقة، ويقول فيها:
إنما مصعب شهاب من الله
تجلت عن وجهه الظلماء
فهو يمدحه بالنور، والإشراق، وكذلك أبيات حسان بن ثابت المشهورة التي تفوق فيها على نابغة بني ذبيان، وعدت من أحسن المدائح، يمدح فيها الغساسنة:
أولاد جفنة عند قبر أبيهم
قبر ابن مارية الكريم المفضل
فإضافة إلى الكرم مدحهم أيضاً بالنعمة، ولين العيش وترفه، مما هي صفة الحاضرة التي يعيشون فيها.
وهذا يقال عن أبيات زهير بن أبي سلمى التي أعجب بها القدماء، واعتبروها مما جمع الوضوح والإيجاز، والسلاسة:
وما كان من مجد أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
وتغرس إلا في منابتها النخل
وما يقال عن المدح يقال أيضاً عن الفخر، بل إن ابن رشيق جعل الفخر عين المدح «إلا أن الشاعر يخص به نفسه، وقومه، وكل ما حسن في المدح حسن في الافتخار»، وهذا يعني أن الصفات السابقة التي يمدح بها، والتي نص أيضاً عليها ابن رشيق، وعدها فضائل الإنسان الحقيقية هي الصفات التي يفتخر بها.
ومع هذا، نجد الشعراء لا يكتفون بالفخر بها كما كانوا لا يتلزمون بها بالمديح، فإذا كان عمرو بن كلثوم - مثلاً - في المعلقة قد قام فخره على الشجاعة، وإيقاع القتل بالأعداء، وسلب أرواحهم، وعلى ذكر عزتهم، ومنعتهم، فإن الصفات التي فخر بها طرفة في معلقته تختلف اختلافاً كبيراً، إذ تقوم على الفخر بالشراب، واللهو بالنساء، وإضاعة المال على ملذاته:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمن هن سبقي العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزدد
وكري إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
ببهكنة تحت الخباء المعمد
وهذه الصفات التي يفخر بها طرفة نجد زهيراً يعدها عيوباً يبرئ ممدوحه منها:
أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله
ولكنه قد يهلك المال نائله
في حين أن الحارث بن حلزة يفخر برغبته بالسلام، والإصلاح بين حيي ربيعة، ويرى أن ما يفخر به ابن كلثوم لا يميز قومه عنهم، فأيامهم مشهورة، والقبائل تخشى سطوتهم.
وإذا كنا قد قلنا في المقالة السابقة، إن موقف العربي القديم من القيم متناقض بناء على أنه يفتخر بفضيلة، أو صفة يراها حميدة، ثم يأتي ما يناقضها، فإن الأمر الأشد هو أن الصفة نفسها تكون موضع مدح مرة وتكون موضع هجاء أخرى، فصفة الكرم التي أكثر الشعراء من المدح بها يرى الشاعر أنها ليست شيئاً ولا تستحق المدح، فيقول:
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيبت بماء فعادت بعد أبوالا
بمعنى أنها ليست شيئاً على وجه الحقيقة، ولا تستحق الثناء. وكذلك صفة الكثرة التي يقول فيها عمرو بن كلثوم:
ملأنا البر حتى ضاق عنا
ونحن البحر نملأه سفينا
يقول فيها السموأل:
تعيرنا أنا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
وكذلك الصفة التي مرت من قبل في قول زهير وهو يمدح قوماً بأن ما كان من مجد أتوه فإنما ورثوه عن آبائهم، نجد عامراً بن الطفيل سيد بني عامر يقول:
وما سودتني عامر عن وراثة
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
والأمر الأهم من هذا كله، أن هذه الصفات التي يبنى بها «العرض» أو يهدم كما في تعريف المعجم الوسيط له، ويتكون منه العار أو الشرف وهو المدح أو الفخر والهجاء، يعتمد على الشعر في بنائه، وإذاعته بين الناس - في الغالب - وهي أداة لا يعول عليها لأنها ليست أداة موثوقة في الحكم الصحيح على الأشخاص، وذلك أن أصدق الشعر - كما قال القدماء - أكذبه، ولأن أمره كما قال أبو تمام:
يرى حكمة ما فيه وهو سفاهة
ويرضى بما يقضي به وهو ظالم
وهذا يعني أنه لا يصلح الاعتماد عليه لتحديد صفات المدح والذم، وما ينبني عليها من «العار» أيضاً، مكوناً للوعي الأخلاقي، الأمر الذي يعني بدوره، أنه - العار - لا يصلح لأن يكون قاعدة يبنى عليها ما يصبح به الفعل ذنباً بناء على ما يجلبه لمن فعله أو وقع عليه.