2- بُنيت هذه الرسائل كما رأينا على ثنائية (التفاؤل/ التشاؤم) في بعدها الدلالي العام. وعلى المستوى الفني نراها تقوم على ذات الثنائيات المتضادة، معتمداً على المتلقي ذاته ليسهم في بناء الثنائية، كما في النموذج التالي:
السعادة لا تعني عدم الألم..
هل يمكن قلب هذه العبارة؟
جمعة مباركة تحاول ذلك..
أو نموذج :
جمعتك نعناع مدني يكيف حتى من يقطعه..
والنموذجان لا يفصحان عن الرؤية التي أرادها الكاتب، فيدع للمتلقي أن يسهم هو في توقع بناء الثنائية المضادة.
وفيما يتناوله الناس من فكرة أن الحياة قائمة على المشقة وليست مفروشة بالورود نجد محمد السحيمي يتجه باتجاه رؤية مضادة تغير التركيب باتجاه رؤية يقترحها على المتلقي، ثم يجيب عنها مقدماً اقتراحه للإجابة:
الدنيا ليست مفروشة بالورد
وليست مفروشة بالشوك، فبم تقترح فرشها؟
جمعة مباركة مفروشة عفوا وغفرانا..
وقد ترتكز الثنائية على مفردتين تظهران في الواجهة مدعمة ببعض المفردات المساندة لها، كما نجد في نص:
إذا ساءت الرؤية يمكنك اتهام الجو أو طبيب العيون أو مساحات السيارة
- ولكن من تتهم إذا ساءت الرؤى؟
جمعة مباركة من غير سوء..
فالمفردتان المركزيتان هما (الرؤية البصرية/ والرؤى الفكرية)، وهو يرى سهولة تغيير الرؤية البصرية بطرق ملموسة سهلة بإزاء الصعوبة البالغة لتغيير الرؤى الفكرية، ملمحاً إلى تقارب المفردة لغوياً وشتاتها دلالياً.
3- لم يعنون لهذه الرسائل، فهي رسائل تحمل عنواناً يسميه الباحث بالعنوان الأفق، ونعني به عنواناً عاماً يمثل شفرة تواصل واعية بين المرسل والمتقبل حيث الرسائل المرسلة ترسل في وقت واحد وفي يوم واحد هو يوم الجمعة وغايتها الوظيفية تهنئة، فهذا جعل العنونة الكتابية لا قيمة لها لوجود عنوان ذهني يمثل شفرة اتصال أو سياق يربط بين المتراسلين مما يستدعي عدم العنونة. وقد اختار لها البحث عنوان (جُمُعَات محمد السحيمي).
4- الرسائل الأدبية التقنية تركز غالبا على المرسَل إليه والرسالة كما ذكر، ونلاحظ أن رسائل السحيمي التي تخيرها البحث تحقق وظيفة الشعرية برأي جاكوبسون، حيث نراها نصاً يركز على الجمالية ويعتمد على حركة اللغة والتصوير في تقديم رؤية تتمثل الاختلاف سواء ما يتعلق بالثنائيات التي أوردها البحث والتي تحقق إبداعية متضادة على المستوى الفني والموسيقي، أو كان ذلك باعتماد اللغة التصويرية الفنية التي تستثير خيال المتلقي في تتبع ملامح الصورة التمثيلية المركبة، كما في قوله:
حينما تسطع الشمس في الوحل فإن لم تطهره فلن يلوثها..
جمعة مباركة أنت شمسها وليكن الوحل ما يكون..
وقد يعتمد في البناء الفني على استثارة خيال المتلقي عن طريق استثارة الحواس بالمتضادات الذهنية كما في رسالته التي يعتمد على تصوير النعناع المدني الذي يبعث السرور برائحته العبقة حتى لمن يقطعه. وهي تبعث رسالة ضمنية موازية تتصل بالمكان والإنسان: جمعتك نعناع مدني يكيف حتى من يقطعه..
وقد تقوم الاستثارة الفنية على بنية لغوية تحرك ذهن المتلقي لتتبع صوابها، كما أورد هذا النحت اللغوي لمفردة (جمعن/ رمضن) في قوله:
(جمعن) الله رمضانكم كما (رمضن) جمعتكم..
5- الإيجاز، وهو قيمة إبلاغية عربية جاءت التقنية بدعمها، ولئن كانت هذه الرسائل الأدبية ذات طابع وجداني أخوي تقتضي الامتداد، لكن إلزامات تقنية الـsms تجعل الإيجاز سمة، ناهيك عن زمن الإرسال وهو قبيل الجمعة حيث نجده يركز الرسائل ويوجزها في مثال: (جمعن الله رمضانكم كما رمضن جمعتكم)، حيث نرى مثل هذه الرسالة الأدبية توصل رسالتها معتمدة الإيجاز البالغ ومتكئة على حركة اللغة. كما نراه في رسالة أخرى مثلاً يعتمد في إيجازه على التصوير في نص يقول: «صباحك عيد أم صباحك جمعة؟ / خياران أحلاهما أحد!».
6- تعتمد الرسائل على خاصية الحذف والتوقف، وهي خاصية سردية معروفة، حيث يتكئ السحيمي على المتلقي بعد أن يقف بالرسالة في منطقة تستدعي المستقبل ليتم رؤية الرسالة كنموذج (مهما كانت المشكلة تخيل كيف ستحدث عنها بعد عشرين عاماً؟)، فهو استفهام يمثل فضاء لا يملك إجابته سوى المتلقي. ولئن كان قد فتح الإجابة بالعبارة التالية لها (جمعة مباركة متفائلة عشرين عاماً، وإن زدت فمن عندك؟) لكن دور المتلقي يبقى قائماً في إتمام تصورات الرسالة. ونلاحظ أنه جاء بالاستفهام هنا ليبقي الرسالة منفتحة أمام إجابة المتقبل. ومثلها رسالة:
إذا ساءت الرؤية يمكنك اتهام الجو أو طبيب العيون أو مساحات السيارة
- ولكن من تتهم إذا ساءت الرؤى؟
ونموذج آخر في قوله: (الدنيا ليست مفروشة بالورد
وليست مفروشة بالشوك فبم تقترح فرشها؟)
و هذا الاتكاء على الاستفهام هو سعي حثيث للمتلقي أن يكون مشاركاً في صنع إجابات الرسالة، وهو متيقن من أهمية دوره في بناء خاصيات تشكل قيمة الرسالة الحقيقية.
وأغلب الرسائل تعتمد هذه الخاصية حيث يقف عند حد يستدعي المتلقي قسراً أن يتابع وعي الرسالة سواء بالاستفهام كما سبق أو بالإخبار الباعث على التأمل كنص (جمعتك نعناع مدني يكيف حتى من يقطعه..)، أو التصوير (حينما تسطع الشمس في الوحل فإن لم تطهره فلن يلوثها..).
7- الزمن، يتكئ السحيمي في سردياته على الزمن كثيراً، والزمن هنا يأخذ بعدين، الأول:
- الزمن الإلكتروني: المصاحب للرسائل ذاتها، ولا دخل للكاتب به، ويأتي في تفاصيل الرسالة المرسلة، ويظهر مصاحباً للرسالة فيما يعرف بتفاصيل الرسالة، وقد اعتمد الباحث عليه في توثيق الحاشية السفلية. ونلاحظ أن الرسائل جميعها يتقارب وقتها الإلكتروني، حيث ترسل تقريباً من بعد صلاة الفجر إلى قبيل الجمعة (5:47 ص- 11:44 ص)، والنماذج التي اعتمدتها الرسالة كانت في عام 2008م.
-الزمن الثاني: هو الزمن الفني الذي تقوم عليه الرسالة باختيار الكاتب، وهو زمن مهم في عملية السرد والرسالة الفنية تقترب في عملها من السرد. والزمن هنا يتمثل في الزمن الديني، حيث تركيز الرسالة على يوم الجمعة الذي يرد في كل الرسائل، كما ورد شعبان ورمضان في بعض الرسائل وهي ذات بعد ديني مقصود.
8- أغلب رسائل محمد السحيمي نثرية، وقد يند بعضها لهدف شعري غالب، كالذي نجده عنده في رسالة بعثها في تأبين محمود درويش جعلها نصاً شعرياً لدرويش عقب عليه بعبارة نثرية:
آمنت بالحرف إما ميتاً عدما@ أو ناصباً لعدوي حبل مشنقة (ي) ..
آمنت بالحرف ناراً لا يضير إذا @ كنت الرماد أنا أو كان طاغيتي..
فإن سقطت وكفي رافع علمي @
سيكتب الناس فوق القبر: «لم يمت (ي)»!
محمود درويش رحمه الله -
جمعة مباركة أرحم من أم اليتيم -
يتبين مما سبق أن التقنية قد أفسحت مجالاً لامتداد فن الرسائل الأدبية، وأن دورها كبير في عودة القيمية لفن الرسائل الشعرية منها والنثرية؛ فالتقنية قدمت الفنون التي تتسق مع حركتها ووضعت سماتها وإلزاماتها، ونهضت بفنون أدبية كالرسائل وفن القصة القصيرة جداً والشعر بأنماطه، ووجهت بعض الفنون لخصائصها كفن رواية الواقعية الرقمية، وهي بجملتها تمثل خصائص النص الأدبي المعاصر التي يصعب تجاوزها، ويراها الناقد تحدياً حقيقياً تجب مواجهته من النقاد والمؤسسات.
** **
- د.عبدالرحمن بن حسن المحسني
للتواصل مع (باحثون)
multaqa38@gmail.com