الثقافية - محمد هليل الرويلي:
مر المشهد الشعري المصري المعاصر بكثيرٍ من التقلبات, صعوداً وهبوطاً، وربما كان هو أبرز المشاهد الشعرية على مستوى الخريطة العربية زخماً وصراعاً. فجيلُ يهضم حقَّ جيل, ومدرسة تحاول أن تطيح بمدارسَ أخرى, و«لوبيهات» تقف بالمرصاد محتكرة هذا المشهد المتخازلَ تارة, والمؤدلج تارة أخرى, والمسيس في بعض الأحيان. وهذا ما يؤكده رئيس مجلس أمناء مؤسسة الكرمة للتنمية الثقافية والاجتماعية الشاعر محمود حسن موعزًا ذلك إلى بعد فترة الطفرة التي قادها أمير الشعراء أحمد شوقي بعد فترة التراجع الشديد للقصيدة العربية في العصر المملوكي التي تَبِعها ظهور مدارسَ جديدة في الشعر المصري مثل «أبوللو» ومدرسة «الديوان» بقيادة العقاد، والتي هاجمت شوقي هجوماً شديداً «لا عن موضوعية أو أكاديمية أو حيادية ولكن لأسباب أخرى ليس المجال مجالها». أقولُ ظهرت دعوة الدكتور لويس عوض (المشبوهة) بعد موت أحمد شوقي؛ إذ صرخ لويس عوض «حطموا عمود الشعر.. لقد مات الشعر العربي.. مات بموت أحمد شوقي.. مات ميتة الأدب». مطالباً بإيجاد إيقاعاتٍ جديدة بدلاً من الوزن الخليلي. كان هجوم لويس عوض في أربعينيات القرن الماضي بمنزلة إلقاء حجر في الماء الراكد. تجلى ذلك الخلاف في مهرجان دمشق الشهير يوم هدد العقاد يوسف السباعي بالاستقالة من لجنة الشعر إذا ما تم إشراك عبد الصبور وحجازي في مهرجان دمشق.
«أروبة وأمركة»
ورغم كل ما حدث يؤكد «حسن»: لكن ظل المشهد الشعري المصري رغم كل هذه الصراعات منطلقاً ومتجدداً, ووهاجاً, حتى مجيء شعراء الستينيات، ومنهم إبراهيم أبو سنة وفاروق شوشة وغيرهما. ولم تتخلَّ مدرسة الستينيات عن عمود الشعر العربي كليَّة، لكنها مزجت بين العمود والتفعيلة.
ويضيف: ثم ما لبث المشهد الشعري المعاصر أن ينتكس انتكاسة مدوية مع جيل السبعينيات. هذا الجيل الذي انقسم على نفسه. قسم يهاجم القديم من المدارس بالكلية, ويرفضه, ويتمرد عليه, غارقاً في السريالية, والغموض والتغريب, وقسم كان بين بين، مثل (حسن طلب ومحمد سليمان ومحمد الشهاوي وغيرهم)، وبعيداً عن منجز القسم السبعيني الثاني والتزامه التجديد دون تنصل من القديم والمعاصرة دون الدخول إلى دهاليز التغريب..
وزاد: تحمل القسم الأول كُتاباً ونقاداً جريمة انصراف الناس عن الشعر وانصراف الشعر عن الناس؛ إذ أوغل هذا القسم من السبعينيين في (أرْوبة وأمركة) ما كانوا يكتبون. ربما كنت تحسب أن كتاباتهم هذه ترجمات لنصوص أوروبية أو أمريكية, غير عابئة بانفصامها وانفصالها عن القضايا الشعرية الإنسانية, التي تهم هذا الجزء من العالم العربي.
ليس هذا فحسب، ولكن تشكلت مجموعة من «النقدة» الذين جاؤوا بما عُرف بعد بالنظريات النقدية المعلبة, وأخذوا يُلبسون هذا العبث نصف السبعيني أثواب نظرياتهم, وراحوا يسوِّقون لها وينحازون, بل يمارسون الإرهاب لكل من لا يلبس أثواباً تشبه أثوابهم. وقال «حسن» عن تلك الحقبة: حتى أنّ الشعراء المعاصرين لهذه الحقبة كان الواحد منهم إذا كتب قصيدة عمودية ظل وجهه مسودًّا وهو كظيم، أيمسِكُها على هون أم يدسها في التراب, لسطوة هذا النصف السبعيني الذي كان يُسمِّي الخليليين «الطارقون على النحاس»، وجُنِّدت لهم المنابر والمهرجانات, والمناصب, والجوائز والصحف، أمثال «إبداع, والثقافة الجديدة, وأدب ونقد, والشعر»، وغيرها, حتى الصحف القومية والحزبية, وهُمِّش ما سواهم, حتى أن بعض الشعراء توقفوا عن كتابة الشعر، وخصوصًا جيل التسعينيات، وأنا واحد منهم، ربما عشر سنوات عن الكتابة. حتى أخذ جيل ما بعد السبعينيات الراية عنوة، وأعاد الشعر للناس، وأعاد الناس للشعر.
أزمة النقد في مصر
كل ذلك لازمه وسايره في مصر حركة نقدية؛ إذ تناولت «المجلة الثقافية» في الجزء السابق الأول ومستهل هذا الجزء الحركة الشعرية في مصر لعظم أثره على المشهدَين الخاص والعام في البلدان العربية، إضافة إلى الحركة الروائية والسردية التي سنتناولها في المحاور اللاحقة؛ فالنقد والإبداع صنوان لا ينفكان، ولا حياة لأحدهما دون الآخر. ولقد كانت العرب تضرب الأسواق وتنصب الخيام فتكون السوق إبداعية ونقدية، والشواهد على ذلك تملأ كتب التراث. والنقد المصري شأنه في ذلك شأن النقد العربي، بل العالمي؛ فقد صاحب الإبداع في مراحله المختلفة «الطفولة، والفتوة والشيخوخة»، وفي فترات الازدهار والتراجع. ونستطيع هنا أن نستعرض في عجالة مسيرة النقد المصري في المائة العام الماضية.
أستاذ الأدب والنقد رئيس قسم اللغة العربية بجامعة دمنهور البروفيسور محمد عبد الحميد خليفة أوضح أنه مع نهايات القرن التاسع عشر بدأت تهب على مصر والشام رياح البعث والإحياء والتجديد على مستوى الإبداع والنقد؛ فأخذت المفاهيم الجديدة تنمو شيئاً فشيئاً. ولعل الشيخ «حسين المرصفي» «1889» أهم الأعلام هنا؛ بوصفه أحد من اتخذوا من التراث سبيلاً لا للإحياء فحسب، بل للتجديد، بعدما مرره بمرحلتي «الانتقاء والانتقاد»، وربما كان لصنيعه هذا «التجديدي» فيما بعد صدى لدى رواد مدرسة الديوان في أول العشرينيات. وفي هذه الفترة كان هناك تفاعل ثقافي بين البيئتين (المصرية والشامية)، يتجلى في إحداهما ما يجدّ في الأخرى.
رواج الأفكار والمعارك الأدبية
وأضاف خليفة: أما في العقد الثاني في مصر خاصةً فقد كان مخاضاً، خرج منه إعلام ممن أُتيح لهم الجمع بين الدراسة التقليدية بالأزهر ثم الجامعية. بعد ذلك جاء الحدث الذي كان له أعمق التأثير في تلوين دراسة الأدب وغيره من الفنون بلون جديد من البحث العلمي المنظم، بشكل لم يعهده من قبل الدارسون، وهو إنشاء الجامعة الأهلية 1908. ولعل ما كان من فضل ما قدمته هذه الجامعة من ألوان جديدة في البحث يُعزى إلى جماعة المستشرقين الذين بدأت الجامعة رسالتها بهم. كما ساعد على رواج الأفكار النقدية الصحف والدوريات؛ فكان جُلها منابر ثقافية عظيمة الأثر، ساعدت على رواج الأفكار الجديدة بما زخرت به من مقالات نقدية، وما استتبعته من خصومات ومعارك أدبية، عملت على بعث النشاط الأدبي، وأهمها مصباح الشرق والمقتطف والمؤيد, وكذلك المنتديات الأدبية في بيوتات الوجهاء والأعيان المعنيين بالأدب والمقاهي.
ويشير «خليفة»: هكذا اتضح لنا في التخطيط العام للمشهد النقدي أول القرن العشرين وجود تيارين رئيسيَّين، توزعا النقد الأدبي، أحدهما تقليدي، والثاني تجديدي. تزعم الرافعي التيار الأول السلفي، وتزعم جماعة الديوان ومعهم أدباء الرابطة القلمية التيار الثاني التنويري. وقد يضاف تيار ثالث، حاول التوفيق بينهما.
طه حسين كسر قانون التسليم بالسائد والمتوارث
ويرى الناقد الدكتور حسام جايل أن النقد الأدبي في مصر في النصف الأول من القرن العشرين كان نقداً انطباعيًّا في مجمله, يقوم على استحسان العمل ومدحه ومدح صاحبه، أو العكس، وظلت خطاه هادئة صافية إلى أن صدر كتاب الديوان للعقاد والمازني؛ فأحدث صدوره - وقد خصصا الجزء الأكبر منه للهجوم على شوقي ونقده - دويًّا هائلاً في الحياة الأدبية والثقافية في مصر، حتى أن ميخائيل نعيمة قد أطراه وعده بداية جديدة لعهد جديد من النقد. وكذلك أحدث كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي» خلخلة لكثير من المفاهيم الأدبية والنقدية، وتعداها إلى العقدية. وقد تمثل أكثر في هذين الكتابين كسر قانون التسليم بالسائد والمتوارث، وحثا على الجرأة في مناقشة الأعمال وكاتبيها مهما بلغت مكانتهم ومهما علا شأنهم.
ويضيف «جايل»: لكن النقد الأدبي في النصف الأول من القرن العشرين لم يكن منهجيًّا في معظمه, ولم تكن له أدوات أو إجراءات نستطيع تمييزها وتحديدها. كما كانت الأيديولوجيات والصراعات السياسية والمذهبية تقوم بدور كبير في الانتصار للعمل وصاحبه أو التقليل من شأنهما معاً.
النقد بعد ظهور تيار الواقعية وموجة الشعر الحر
وفي النصف الثاني من القرن العشرين يؤكد «جايل» أن النقد اتخذ في مصر منحنى جديدًا لأسباب عدة، منها تفكك الأيديولوجيات الكبرى في العالم، وما أعقب الحرب العالمية الثانية من تغير في موازين القوى العالمية، وإعادة ترتيب العالم وفق معطيات وفلسفات جديدة، وكذلك ظهور تيار الواقعية في الإبداع وما تبعه من ظهور موجة «الشعر الحر التفعيلة» وما صاحبها من تنظير وتحليل على أيدي بعض شعراء هذا الاتجاه أو بعض النقاد المعاصرين له والمنتصرين له. ومن أهم هذه الأسباب وأقواها عودة بعض المبتعثين من أوروبا الذين درسوا النقد الأدبي وعلوم اللغة والمناهج الجديدة على أيدي كبار أساتذة النقد واللغة في أوروبا. هؤلاء المبتعثون كان لهم أثر كبير في النهضة النقدية التي حدثت منذ أواخر الخمسينيات إلى الآن؛ فقد اكتسب النقد على أيديهم منهجية واضحة، وأسسوا مدارس نقدية واضحة المعالم من خلال كتبهم وأبحاثهم، ومن خلال تلاميذهم، وعلى طليعتهم محمد مندور الذي كان له دور كبير على الساحة النقدية والثقافية والفكرية، وكان لكتابه «النقد المنهجي عند العرب» أثر كبير في جيله والأجيال التالية له.
الشللية مفردة لازمت الجيل السابق
وأما في اللحظة الراهنة فيقول «جايل»: فإن جيل الشباب ينحت في الصخر ليمكن لنفسه في دنيا النقد والإبداع؛ لأنه يواجه مشكلات عدة، تتمثل في فوضى المصطلحات، وكثرة المناهج النقدية وغموض الكثير منها نتيجة الترجمة - وهنا ننبه إلى ضرورة إجادة لغة أجنبية - كذلك كثرة المنتج الإبداعي مع قلة الجيد منه، فضلاً عن المتميز, وهو ما يصعب حصره ومتابعته، ويحتاج إلى عمل مؤسسي، وليس عملاً فرديًّا. كما أن الإنتاج ليس كثيرًا فحسب, بل متنوعاً ومتداخلاً في عصر ذوبان الفواصل بين الأجناس، والكتابة عبر النوعية. كذلك فإن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تمثل عالماً مفتوحاً وبلا قيود لكل من أراد ممارسة الإبداع أو النقد، كما أن سيطرة الشللية -وهي عادة متوارثة من الجيل الأسبق - على الساحة الثقافية والنقدية والإبداعية، ولاسيما شلل الصحافة الأدبية والصفحات المخصصة للأدب في الجرائد، بل والحياة عامة في يوم الناس.. كل ذلكم يمثل تحديًا أمام جيل الشباب. وكذلك الجامعة لم تعد تدرس النقد كعلم، وهذه إشكالية كبرى، لا مجال للخوض فيها هنا.
الخروج من أزمة النقد
وللخروج من هذه الأزمة يؤكد «جايل» أن هناك أمورًا عدة، إذا قمنا بها فإنه بالإمكان أن نخرج من هذه الأزمة النقدية. ومن هذه الأمور تدريس الأعمال الإبداعية في الجامعات في أقسام اللغة العربية، والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع, وتدريس المذاهب النقدية واللغوية للطلبة بشكل تفصيلي، وتشجيعهم على القيام بأبحاث نقدية وتحليلية للأعمال الأدبية, وتخصيص مساحات في قنوات التلفزة كافة لمناقشة الأعمال الأدبية والفكرية، وعرض آراء النقاد حولها. كما أنه لا بد من القضاء على الشللية التي تهيمن على الساحة الأدبية والصحافة الأدبية, إضافة إلى إنشاء منابر نقدية في كل محافظة ترصد الأعمال الإبداعية، وتحللها وتصنفها. مشددًا في الختام على ضرورة احتضان شيوخ النقد المصري لشباب النقاد وتشجيعهم وتوجيههم.
الرواية تشكل وجدان المصريين
أستاذ النقد والأدب المقارن بجامعة بني سويف الدكتور شريف الجيار بدوره كشف أن الفن الروائي لعب دورًا مهمًّا ومركزيًّا في تشكيل وجدان الإنسان العربي، وصياغة فكره، وتحديد موقفه، تجاه واقعه المعيش عبر عقود طويلة، انخرط فيها هذا الفن الراقي مع التغيرات الحضارية والتاريخية والسياسية والاجتماعية التي حدثت في العالم العربي والعالم, حتى أضحت الرواية انعكاسًا فنيًّا، ورؤية جمالية، تجسد واقع الإنسان العربي، في ظل تغيرات كبرى، أثرت في حياته سلبًا وإيجابًا، مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، ووعد بلفور، ونكبة فلسطين، ونكسة يونيو 1967م، ثم حرب أكتوبر 1973م، واتفاقية كامب ديفيد، والحرب الأهلية اللبنانية، وغيرها من الأحداث المصيرية، التي أثرت في مسيرة الرواية العربية، وقضاياها المطروحة، وصيغها التجريبية، وتقنياتها السردية الحداثية.
وكشف أيضًا أن المتأمل في الخطاب الروائي العربي، ولاسيما المصري منه، يلحظ أنه تطور بشكل لافت، بدءًا من رواية «زينب» 1914م لمحمد حسين هيكل، التي يعتبرها النقاد البداية الحقيقية للرواية العربية؛ لأنها اقتربت في فنيتها من فنية الرواية الغربية آنذاك، رغم أنها سبقت بالعديد من المحاولات الروائية. وتتوالى الأجيال؛ فيأتي ما كتبه عيسى عبيد وشحاتة عبيد ومحمد تيمور ومحمود تيمور ومحمود طاهر لاشين، ثم طه حسين، والعقاد، والمازني، ويحيى حقي، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وغيرهم. فنجد «دعاء الكروان، وسارة، وإبراهيم الكاتب، وقنديل أم هاشم، وعودة الروح، والقاهرة الجديدة»... وغيرها.
جيل النقلة في الرواية
وأضاف «الجيار»: لعل هذا الجيل من الرواد قد أثر بشكل واضح في جيل النقلة الحاسمة في الرواية العربية المتمثل في جيل الستينيات، أو جيل الحساسية الجديدة، أو الكتابة عبر النوعية، على حد تعبير إدوار الخراط. ذلك الجيل الذي عاصر الحلم الناصري، والفكر الاشتراكي، والآمال المجهضة، في تحقيق وحدة عربية قوية، تتصدى للعدو الإسرائيلي، ذلك الجيل الذي استيقظ على هزائم سياسية وعسكرية، قد مُني بها الوطن العربي، وكانت سببًا رئيسيًّا في تمرده - كجيل - على واقعه المعيش بكل تناقضاته السياسية والاجتماعية، ودفعه إلى رفض معظم القيم السائدة، والبحث عن طرق جديدة للحياة، تحمل لواء الحداثة والتجديد.
لقد استطاع هذا الجيل - بإبداعه السَّردي المتميز - أن يتجاوز تقليدية السرد في العصرين: الكلاسيكي والرومانسي، ويحطم فكرة القوالب والأنماط والخيال الجامح، وينقل الرواية والسرد - بشكل عام - إلى مرحلة حداثية جديدة، تتسم بالعمق والأصالة والمجاوزة؛ إذ استطاعوا أن يمزجوا التعددية في طرائق التعبير بالعوالم الخيالية والصوفية والواقعية والتاريخية؛ وهو ما جعل إبداعهم يتجلى في خطاب سردي أكثر تعقيدًا، وأعمق تركيبًا. وهم في هذا قد نحوا بالرواية العربية صوب مرحلة متقدمة، أكملت ما بدأه جيل الرواد.
اقتحام المسكوت عنه والطبقات المهمشة
وبالرغم من كل انعكاسات هذه الفترة يؤكد «الجيار» أن هذه الفترة الستينية من القرن العشرين بكل تناقضاتها قد أفرزت لنا مجموعة متميزة من كتّاب السرد في مصر، أمثال: «إدوار الخراط، صنع الله إبراهيم، يحيى الطاهر عبد الله، إبراهيم أصلان، محمد البساطي، عبد الحكيم قاسم، بهاء طاهر، يوسف القعيد، جمال الغيطاني»... وغيرهم، فضلاً عن أقرانهم في العالم العربي. ويحسب للفن الروائي في القرن العشرين أنه اقتحم - بجسارة إبداعية - عوالم الطبقات المهمشة، وقضايا المسكوت عنه، بوشائجها المختلفة، وانتقل بها من هامش الواقع إلى متن النص السردي، ومركزيته، مفيدًا في هذا من تداخل الأنواع الأدبية في جانب، وتآزر الفنون في جانب آخر, ولاسيما الفنون البصرية, كفن السينما (التصوير والمونتاج), فضلاً عن فنَّيْ المسرح والسيناريو، وكلها آليات فنية، استوعبتها الكتابة السردية الجديدة؛ كي تسبر أغوار واقعنا المعيش في هيئة مشهدية بصرية، ملائمة لطبيعة الفورة التكنولوجية والمعلوماتية، وعصر الصورة الرقمية؛ فيتجلى الخطاب الروائي في هيئة مونتاج سينمائي ذي لقطات سردية، ترصدها عين كاميرا السارد؛ ما يدفع بالسياق السردي نحو الإيهام بالواقعي، فيزج بالنص نحو التثويرية محفزًا المتلقي على عقد موازنة بين النص، وما يطرحه من قضايا، وبين الواقع الذي يعبر عنه هذا النص، بكيفية فنية أداتها الرئيسية اللغة الفنية.
وزاد: تجلى هذا بشكل واضح فيما تشهده الرواية المصرية والعربية من إنجاز روائي جاد، أنتجته أجيال متعاقبة، ولاسيما جيل الشباب، الذي أكد حضوره الإبداعي الجسور في إبداع الرواية، مؤكدًا العلاقة الوثيقة بين جنس الرواية والرؤية المستقبلية الناقدة والمحللة لمعوقات هذا التقدم، وهو ما نراه في إبداعات كتّاب متميزين، أمثال: «محمد عبد النبي، وطارق إمام، ومحمد الفخراني، وأمينة زيدان»... وغيرهم.
القصة القصيرة النشأة
- التطور - الأعلام
وحول تشكلات ومسيرة ونشأة وتطور وأعلام القصة القصيرة في مصر المتمثلة بالنصوص الإبداعية في القصة القصيرة، وهي أحد الأجناس والفنون الأدبية التي أصبح لها وجود قوي على الساحة الأدبية منذ فترة ليست بالقصيرة، وهي في ذلك تعد الرافد الأدبي الثالث الأكثر شيوعاً وشهرة بعد الشعر والرواية, أوضح الدكتور أحمد الليثي (جامعة المنيا) أن بدايات هذا الفن القصصي من الموضوعات التي تباينت الآراء واختلفت حولها؛ فبعض مؤرخي الأدب يقول بامتداد جذور قوية وراسخة للفن القصصي عامة - والقصة القصيرة خاصة - في الأدب العربي، واستشهدوا لذلك بقصص ألف ليلة وليلة، وقصص الأمثال، وقصص البخلاء، وغيرها من البدايات الأولى للفن القصصي. وآخرون قالوا إن أصلها غربي، ونشأتها بين أحضان الأدب الغربي وأعلامه الكبار من أمثال: «موباسان، جوجول، زولا، جيمس جوس، ورائدها الأول هناك إدجار آلان بو»، وإنها نقلت عن هؤلاء إلى أدبنا العربي. وبدأ الكتاب ينسجون قصصهم على نهج هؤلاء، مبينًا أن ما ساعدهم على ذلك حركة الترجمة والصحافة التي انتشرت منذ بدايات القرن التاسع عشر الميلادي.
وأيا كان الأمر - يضيف «الليثي» - فإن القصة القصيرة بحدودها المعروفة وخصائصها التي تميزها عن أي فن آخر إنما بدأ التأصيل لها ولظهورها بفعل حركات الترجمة التي قام بها عدد من الكتاب والأدباء إبان ثورة 1919م وانتفاضة الشعب وقتها، وتحرير المرأة والانفتاح على الأدب الغربي والقراءة لرواده وأعلامه. كما كانت إرهاصات القصة القصيرة قد بدأت منذ كتابات المنفلوطي ومحمد حسين هيكل وغيرهما ممن خاض تجارب الكتابة القصصية، سواء المعربة أو التي من تأليفه. وبدأت القصة القصيرة تنتشر في البيئة المصرية التي احتضنتها منذ مهدها الأول، فعبرت القصة القصيرة عنها تعبيرًا واقعيًّا موضوعيًّا شاملاً، وذلك خلال فترات ثلاث: تتمثل في الفترة الأولى قبيل ثورة 1919م، وإن عدَّ بعض الكتاب والمؤرخين البدايات الحقيقية لها بداية من القرن التاسع الميلادي، وعرف فيها كتاب لهم قصب السبق في ريادة هذا الفن، أمثال: المنفلوطي، ومحمد تيمور، وصالح حمدي حماد، إلى أن انتقل إلى المرحلة الثانية من 1920م إلى 1925م، التي تعد بداية لظهور أدباء كبار في كتابة القصة والقصة القصيرة، أمثال: عيسى عبيد، وشحاتة عبيد، وحسن محمود. ويتأصل ويترسخ هذا الفن القصصي جيدًا في مرحلة ثالثة، هي مرحلة عبَّرت عن الواقعية أشد تعبير، وهي تمتد من 1925م إلى 1933م، وقد برز فيها مجموعة من الأدباء الذين أصبح الاتجاه الواقعي ورسم صورة صحيحة وموضوعية وواقعية للمجتمع هي ديدنهم الأوحد، من أمثال: محمود طاهر لاشين، وأحمد خيري سعد. وما زال هذا الأثر ممتدًا حتى الآن، تبعه أعلام كبار، من أمثال: يوسف إدريس، ونجيب محفوظ، ويوسف السباعي، ومحمد مستجاب.. وغيرهم.
فن المقامة والقصة
وتابع: إن القصة القصيرة في حدودها وشكلها الموسومة بها عدَّها بعض الباحثين طورًا متطورًا عن فن المقامة، بحدود معينة، وزمن قصير محدد، وتركيز وتكثيف لأحداثها، وربط بعضهم بينها وبين فن المقامة من حيث النشأة. ومنذ النشأة الأولى للقصة القصيرة وبواكير أعمالها وأعلامها نجد أن لمصر الريادة في فيها، واشتهر كثير من الكتاب فيها، منهم محمد تيمور الذي يتقدم هؤلاء جميعًا بريادته لهذا الفن بمجموعته القصصية (ما تراه العيون)، التي صدرت عام 1917م، وإن ذُكِر الكاتب صالح حمدي حامد كرائد أول لهذا الفن بمجموعته (أحسن القصص) التي صدرت عام 1910م. وأيًّا كان الأمر فإن مصر كانت الرائد الذي تبعته الدول العربية في النهوض بفن القصة القصيرة، وعملت على انتشارها، واستشراف فنون جديدة، تخرج من عباءة هذا الفن كالقصة القصيرة جدًا، والأقصوصة.
... ... ...
في الجزء الثالث (الأخير) القادم من (رقيم ودهاق مصر) تجول (الثقافية) مع أبي الفنون ومن عنده تدخل للسينما بعد أن نتذوق مع قراء الثقافية فنجان البلاغة المرة المستطابة في عدد من الصالونات الثقافية في أم الدنيا.