قراءة - حمد حميد الرشيدي:
(ساجدة... الموت عشقاً) رواية صادرة حديثا هذا العام، عن (قلم الخيال للنشر والتوزيع) للكاتب والروائي السوري عبد السلام الفريج. وتأتي هذه الرواية ضمن ركب الرواية العربية المواكب لظروف ما يعرف بـ (الربيع العربي) وما قبله بقليل من حروب شهدتها المنطقة, كان آخرها (حرب الخليج الثالثة عام 2003م) وهي متأثرة بلغتها وموضوعها وأفكارها وأسلوبها وأجوائها بأحداث هذه المرحلة السياسية الحرجة والحساسة التي مرت بها بعض البلدان العربية خلال العقدين الأخيرين من الزمن على وجه التحديد, والتي كانت لها آثارها الواضحة على حياة هذه الشعوب - أفراداً وجماعات - من نواح شتى: اجتماعية وسياسية وأمنية واقتصادية ونفسية.
وهذا ما جعل هذه الرواية واقعة في إطار ما يمكن أن نطلق عليه (رواية المرحلة) أي تلك الروايات التي عاصر كتابها أحداث هذه الحروب, والأزمات البشرية, وشهدوا إرهاصاتها، وعايشوها على أرض الواقع, وتأثروا بنتائجها, حتى ترجموها بأقلامهم - فيما بعد - إلى أعمال أدبية سردية, تصف تلك المرحلة القلقة المضطربة, وانعكاساتها السلبية على المواطن العربي, وشعوره بالخوف والتشتت وضياع الهوية والحرمان والغربة وعدم الاستقرار والاطمئنان على أرضه وترابها وبين ذويه.
وفي هذه الرواية يحاول الكاتب أن يتنقل بنا معه - كقراء - بين أربعة عوالم متباينة:
- الأول: القبيلة، بعاداتها وتقاليدها المتعسفة, وأعرافها الصارمة.
- الثاني: الحب والعشق، بصورته الإنسانية الرومانسية الحالمة، وما يواجهه من عوائق وتحديات تمثلها القبيلة المنغلقة على نفسها, في مجتمع شرقي محافظ, يقف ضد هذا العشق, ويرفض العلاقات العاطفية, بدافع قبلي صرف, ليس بشرط أن يتفق مع الدين أو الأخلاق في شيء.
- الثالث: الحرب،بوحشيتها وضراوتها المرعبة, التي تأكل الأخضر واليابس.
- الرابع: الهجرة الاضطرارية, ومرارة الغربة ومعاناتها.
وجميع هذه العوالم في الرواية تتصارع فيما بينها على تحديد مصيرها ووجودها ونتائجها, بحيث لا يمكننا الجزم بتفوق أحدها على بقية العوالم الأخرى, حتى بعد أن انتهت الرواية، وفرغ الكاتب من وضع قلمه، معلنا لنا نهايتها بالصفحة الأخيرة منها, موقعا بكلمة «انتهت» فإنني أعتقد أن القارئ ليس متيقنا من نهايتها التي وصلت إليها, بما يوحي بانتصار بطلها (حماد) انتصاراً حاسما لصالح موقفه ووضعه, وقضيته كمواطن عربي حر معارض, أو ثائر ضد الحكومات المتسلطة عليه، وأنظمتها المستبدة وعنجهيتها, واستمراريتها لعقود طويلة من الزمن, حتى غادر أرضه، مكرها, مضطراً, مهاجراً لينجو بجلده إلى غيرها من بلاد الله الواسعة, كي يعيش بسلام على الأقل « ويترك الجمل بما حمل» أو «يترك الخلق للخالق « كما نقول في أمثالنا العربية!
ربما يكون الكاتب قد تعمد - فعلا - أن تنتهي روايته على هذا النحو (التراجيدي) المأساوي, ولكن رغم ذلك تبقى الرواية ذات نهاية (فراغية) أو (مفتوحة) وهذا - بدوره - لا بد أن يشرع للقارئ سؤالاً محيراً ومستحثا لمعرفة المزيد, هو ( ثم ماذا بعد؟)..ماذا حصل بعد موت بطلة الرواية (ساجدة) في غرفة عمليات أحد مستشفيات الولادة إثر إنجابها لطفلة جميلة، حملت اسم أبيها؟ وما نتيجة ذلك؟..كيف تحول (حماد) من مناضل عربي ثائر ضد الظلم والطغيان إلى مجرد أب (أرمل) محطم على هامش الحياة؟ أم أن هذا كان قدره الذي كتبه الله - تعالى - له في نهاية الأمر؟ انه السؤال الذي ظلت إجابة الكاتب عليه مبهمة, ليس لأنه لا يعرف الجواب, ولكنه ربما تعمد تغييبه, أو تركه للقارئ ليستوحيه بنفسه.
ويتضح للقارئ المتمعن في سطور هذه الرواية أن (حجر الزاوية) لتلك (العوالم الأربعة) التي أشرنا إليها آنفاً هو عالم الحب والرومانسية والإنسانية, وهو العالم - وحده - الذي ظل حيا طيلة امتداد صفحاتها, حتى كان له أثره الواضح في بناء الشخصيات, وتحولات الزمان والمكان, وفي تطور الأحداث وفاعليتها، وتصاعد وتيرتها.
أما بقية العوالم الأخرى: القبيلة والحرب والهجرة, فقد ذابت كلها في بعضها, خاصة (القبيلة) بعاداتها وتقاليدها البالية, والتي كان حضورها باهتا, منذ الصفحات الأولى للرواية, وليس لها دور يذكر في عملية بناء الحدث السردي, وتطوره, أو في شخصياته, وزمانها ومكانها. بل زاد من تلاشيها، وضعف دورها إلى حد كبير اندلاع الحرب، وسقوط النظام الحاكم في العراق (البلد الأصلي لحماد وساجدة : بطلي الرواية) بدخول القوات الأمريكية بغداد عام 2003م كما هو معروف, وهذا ما جعل بنية المجتمع القبلي تتخلخل وتتفكك، وذات عمر زمني قصير جدا، نظرا لقصر المدى الذي وصفه لنا الكاتب بالصفحات الأولى من الرواية بين علاقة حماد بساجدة في مجتمع القبيلة المحافظ, وبين سرعة دخول القوات الغازية إلى العراق, وخروجهما منه, وهو الأمر الذي كان كفيلا - بحد ذاته - بإزالة المشهد القبلي ومظاهره عند هذه النقطة المبكرة من الرواية.
ولهذا نجد أنه بمجرد خروج (ساجدة وحماد) من (العراق) لم يعد للقبيلة أي دور يذكر، لا في السياق الفني الروائي, ولا بنجاحها في الوقوف ضد زواجهما من بعض على أرض الواقع.
معنى هذا كله - باختصار- أن عالم الحب والرومانسية والتضحية في سبيل القيم الإنسانية وجمالياتها, وانتهاء قصة العاشقين بالزواج, مع ما خلفه فقد أحدهما - في نهاية الأمر - من ألم وبؤس في نفس الآخر كان الهاجس المسيطر على قلم الكاتب وتفكيره ومشاعره منذ بداية الرواية, حتى نهايتها, بينما بقي وجود العوالم الأخرى فيها هامشياً!
ولعل مسمى الرواية(ساجدة..الموت عشقا) يوحي لنا في نهاية الأمر بأنها رواية رومانسية، وقضيتها وموضوعها إنساني بحت, كما وصفها الكاتب لنا(...الموت عشقاً) ولم يقل لنا مثلاً (الموت نضالاً أو جهاداً أو تضحية في سبيل أي شيء آخر)!
أما فيما عدا ذلك فقد كانت لغة الكاتب واضحة ومعبرة, وتحمل قيما إنسانية سامية, مما جعل روايته هذه نموذجاً جيداً لروايات الحرب وآدابها, فضلاً عن كونها ترصد مرحلة هامة من المراحل التي مرت بها منطقتنا العربية في العصر الحديث، على كافة الأصعدة.