(رمق آيل للحياة - من خربشات طفل المطر) ديوان للشاعر اليمني ياسين محمد البكالي صادر عن نادي الأحساء الأدبي عام 1438/ 2017 يقع في مائتين وثلاثين صفحة ونيف، ويتألف من ثمانية وستين نصا. تشكل القصائد العمودية معظم قصائد الديوان (52) قصيدة، وبقية النصوص موزعة بين قصائد التفعيلة والنصوص النثرية.
للشاعر إنتاج غزير تنبئ عنه سيرته الذاتية التي تتضمن دواوينه المطبوعة وما هو تحت الطبع.
وشاعرنا ذو نفس طويل وموهبة شعرية متفتحة، فمعظم ما احتواه ديوانه قصائد، إذ تندر لديه المقطوعات التي تقل عن سبعة أبيات. وله مطولات بلغت إحداها ستة وتسعين بيتا.
ومع تمكن الشاعر من أدواته إلا أننا نلحظ أن قصائده العمودية لم تتجاوز بحور الكامل والبسيط والطويل إلا إلى الوافر (3 قصائد) والخفيف قصيدة واحدة فقط، أما المجزوءات فليس في الديوان سوى ثلاث قصائد من مجزوءات الوافر والخفيف والكامل بواقع قصيدة لكل منها.
نظم الشاعر قصائد ديوانه بين عامي 2015 و 2017 ولذلك جاء الديوان لسانا ناطقا عن مأساة بلاده (اليمن) التي تعرضت - وما زالت تتعرض لها - جراء انقلاب الحوثيين على السلطة الشرعية، وما تكابده البلاد من الدمار والخراب، والتقتيل والتشريد، وغربة الآباء عن أبنائهم وأسرهم التي تصطلي بنيران الحروب، ولا يكاد يطرق مسامعها إلا أزيز الرصاص ودوي المدافع.
تبدو قصيدة (سلطان الفتوح) قصيدة غزلية رقيقة، أو كما وصفها الشاعر بالعروس، لكن أية عروس يراها الشاعر أجمل من بلاده:
لله هذا الحسنُ من تنزيلِهِ تأتي القصيدةُ كالعروسةِ دون شكّْ
لقد أصبحت البلاد في نظر الشاعر ملكة، وهو في بلاطها من الدرك، يشاركه في المهمة كل من الضوء وتاريخ المدينة والهوى:
الضوء، تاريخ المدينة، والهوى
صرنا جميعا في بلاطكِ كالدركْ
وهو يعدُّها صكَّ الغفران الذي سيحمله للفردوس، أو الشَّرَك الذي يبقيه في الدنيا:
لو رامت الفردوسُ أخذي من يد الدنيا إليها كنتِ للغفران صك
أو حاولت تصطادني الدنيا لكي
أبقى لديها ربما كنتِ الشَّرَك
والبكالي عاشق لبلاده حتى الثمالة، لكنه ليس إقليميا فلم يذكر محافظته التي ولد فيها (ريمة) بل ذكر في مطولته (عروج في حضرتها) عاصمة المملكة الصليحية (جِبلة)، وأشار إلى ملكتها أروى بنت أحمد الصليحي، وكأنه أراد أن يستدعي تاريخ اليمن السعيد ليعوضه ذلك عن تذكر حاضره المرير. فبعد أن افتتح القصيدة بقوله:
كصمت الناس في طرقات جِبلةْ
يمد الحزن في الأرجاء ظلهْ
مضى يعدد محاسن مدينة (إب) المتاخمة لجبلة ويقول:
سقاها الله من أرض فمـن لم
تكن إبٌّ عروســتَه فمن لهْ؟
واختتم البيت الأخير من القصيدة بثلاث نقط ليترك للقارئ أن يضع مكانها ما شاء من أمجاد اليمن السعيد:
وأنَّ لإبَّ ذاكرةٌ سـتنسى
مثالبه وتذكرُ أنَّ جبلة ...
وقد يدرك القارئ روح البردوني في بعض أبيات شاعرنا في مثل قوله:
بالتْ على نفسها صنعاءُ وارتعشتْ
ضلوعُها وارتمتْ أنفاسها هلعا
منْ أيقظ الريح منْ لف السراب ومنْ
إلى التهامكِ يا أم البنات سعى؟
لكنني أرى أن هذه هي روح كل يمني وطني قلبه على وطنه. يقول في إحدى قصائده وهي من شعر التفعيلة:
وطني يتكوَّرُ بؤسًا
كعجوزٍ أعيتْها الحيلةْ
في صدِّ سهام الأبناء..
ومن قصيدة أخرى يقول:
أحلامنا من زجاج الخوف إن كُسرتْ
صارت كما شاءها أنذالُنا فِتنا
رخيصة كفتاوى القتل فـي بلدي
غاياتنا ربما صرنا لها ثمـنا
وحين امتلأت نفسه يأسا قال:
من غُصّة التاريخ حتى نهْدتي
وطنٌ عجزنا أن نراه جميلا
ومع أن نفس الشاعر تجيش غيظا على من عاثوا في البلاد فسادا لكنه ينأى بنفسه أن يسجل أسماءهم وكأنه لا يريد للتاريخ أن يخلد ذكرهم:
تفضي إلى المنفى بلادي والأسى
فيها زعيم لا يريد رحيلا
ومن قصيدة أخرى يقول:
كل شيء هاهنا مستغرب.. إلا الغرابة
عاثر تاريخنا..
ما بين حكام أحالونا دجاجا..
منذ أن صاروا كلابه
في بلادي.. وحدها تبقى الخيانة..
دون خوف أو رقابة
في بلادي وطن أعمى..
عليه كل يوم يعلن الشعب انقلابه
ويشير في قصيدة أخرى إلى الخصوم الذين مزقوا البلاد:
في بـلاد تطـايرت
بين خصمين كالورق
وطنٌ ربما الحصى
فيه تُحصى ولا السُّرَق
حتى إنْ أورد ما يشير إلى (أنصار الله) أتى بمسماهم من باب التهكم الذي مرده المفارقة بين الاسم والمسمى:
سفينتي أيها الأنصارُ لا أحد
منكم إلى الله أو للشرع يُجريها
ومن قصيدة (المعتمون) يقول متهكما بما آلت إليه بلاده حين خلعت الزعيم ليحل محله الإمام:
المعتمون وأنت كذبةُ موطــنٍ
خلعَ الزعيم ليرتديه إمامُ
يا أسود الأيام شرْعنتَ الأذى
فينا وبات وليُّك الإجــرام
ويختم قصيدته بقوله:
برَّأتُ آل البيــت منه م مثلما
من يائــسٍ تَتبَرَّأ الأحــلام
ولدى الشاعر قدرة هائلة على توليد الصور، وقد اجتمعت في واحدة من قصائده المعنونة بـ (غيهب النايات) العديد من هذه الصور:
أسيرُ كأنَّ القيدَ تلويحةٌ على
مُحَيَّا رفيق مَدَّ نحوي تأسَّـفَهْ
عددتُ ثقوبَ العمر حتى تكاثرتْ
وصارت على وجهي تجاعيدَ معرفة
يسابقني ظلي إلى الموت مثلما
يسابقُ مُنْهَدٌّ إلى النوم شرشفه
وها أنا منفي أنادي على الصدى
وما أحدٌ غيري من الناس أوقفه
وقوفا على أعتاب ؤيح تضمني
إليها كشيخٍ تائبٍ ضمَّ مصحفه
وأحيانا تأتي الصورة البيانية من ميدان المعركة مثل قوله:
سلامٌ على عينيك ينسلُّ من فمي
كما انسلَّ من دوامة الحرب خائفُ
وشاعرنا متأثر بألفاظ القرآن الكريم، يدرك القارئ اقتباساته منه بسهولة كمثل قوله:
ورأيـتَ ثمَّ رأيـتَ نـارا تدعي
أن سوفَ تدخلني نعيما آخــرا
ويقتبس من القرآن الكريم أحيانا عناوين لبعض قصائده مثل قصيدة (ليال عشر) ومعلقته (قل أوحي إلي) التي بلغت ستة وتسعين بيتا، وهي في عاصفة الحزم، وفيها يقول:
النونُ محراب الضعاف وكافُها
من ربِّ سلمانٍ أتتْ «سلمانا»
فأتـى بعاصفة كـأن قدومَـها
مطرُ الشتاء يداهــم الأزمانا
في الديوان أخطاء طباعية قليلة معظمها في الضبط بالشكل لكن يسهل على القارئ تصويبها، بيد أن هناك أخطاء جعلت المعنى المراد يستغلق؛ مثل عنوان إحدى قصائده (زغاهيد) فقد أشكل علي المعنى المراد حتى أعدت قراءة لقصيدة فوجدت أن الصحيح هو (زغاريد) بدليل قوله من القصيدة:
وزغردتْ وحدها الأحزانُ في بلدي
فلـم يعـدْ أحـدٌ يبكي على أحدِ
ومثلها كلمة (لعك) التي أظن أنه يقصد بها (علك) في البليت التالي:
لقد أدمن الواشون لَعْكَ الهوى على
فطيرة حُبٍّ كان قلبي غريمَها
وأختم مقالي بخطأ عروضي وقع فيه الشاعر دون أن يتنبه له، لأنه تكرر في عدة أبيات من قصيدة واحدة من بحر الطويل، وهي القصيدة التي اختار منها الشاعر أبياتا ليجعلها على الغلاف الخلفي للديوان، فقد جاءت أعاريض أربعة أبيات من القصيدة على وزن (فاعلن) كقوله:
وأمسك بالشكوى ضمير مؤجل
تعلَّـم أن يحـيا بلا أنصـاره
** **
- سعد عبدالله الغريبي