عبْر مقدمة تشبه البيان الناقد للمجتمع التقليدي، يطرح الكاتب القاص علي بن حسين الزهراني مأساة الشاب - الناشئ في مجتمع يربط الرجولة بأمور مبالغ فيها حدّ الرهاب؛ ما يعصف بالشاب، ويجعله في حالات ومواقف تضيع ثقته بنفسه أمام الضيوف عند صبّ القهوة، وفي مواقف العرضة بالسيف أمام الرجال، وغيرهما من مواقف (الرجولة)، وتتصارع تلك التحذيرات داخل نفس الشاب؛ لتفسد عليه حياته لاحقًا، وتفسِد عليه أهم ليلة في حياته (ليلة الزواج)؛ فلا يستطيع مع عروسه حزمًا ولا عزمًا!
استوقفتني المقدمة التي وضعها القاص مفتتِحًا بها مجموعته الثانية، وكتبها له الدكتور محمد سلامة. وفي الحقيقة كنت أظن أن الكتّاب السعوديين قد تخلصوا من التقديم لكتبهم، وخصوصًا عبر من يتوهّم أنّه (الكاتب الكبير أو الأستاذ الدكتور).. وإذا كنا بالأمس التمسنا عذرًا للقاص الأستاذ محمد علوان وهو يستكتب أديبًا (كبيرًا) بحقّ، وهو (يحيى حقي)؛ ليعرّف به في انطلاق مشواره الأدبي، وذلك في مجموعته (الخبز والصمت)، وكان ذلك في الثمانينيات الميلادية، فمن يلتمس للسعلي عذرًا اليوم وبعد كلّ هذه السنوات!؟
وإذا كان صاحب (قنديل أم هاشم) و(عودة الروح) قد قرأ بوعي مجموعة العلوان ثمّ قدّم لها، وألمح إلى بعض خصائصها وخصائص الأدب الجديد الذي يكتب في المملكة في تلكم الفترة، إلا أني أشكُّ أنّ كاتبَ مقدمة مجموعة (خلك رجّال) قد قرأها قراءة بوعي وهو - ويا للغرابة - (الأستاذ الدكتور) محمد سلامة؛ لأن حديثه عن «الاستعانة بعالم الحيوان والبيئة الحيوانية الصحراوية (التي رآها) أهمّ السمات التي تميز الكاتب...» ص7. هذه المجانية يقدمها دكتور سلامة لا لشيء إلا لأنّ الكاتب استعمل مفردات مثل (طاووس وحرباء وخروف وعنكبوت و...) في مجال التشبيه لا غير، لكنه الاستسهال ورصّ الكلمات اعتباطاً، وقول أي شيء حول أي شيء. فالحذر الحذر من هؤلاء يا صديقي!
تأتي مجموعة (خلّك رجّال) ثانية بعد ديوان شعري وثلاث مسرحيات للكاتب السعودي علي بن حسين الزهراني لتشكل إضافة إبداعية لمجمل النتاج الأدبي الذي يسير فيه هذا الكاتب، وهو الذي يستخدم لقبًا محليًّا (السُّعلي)، وقلّ من يفعل ذلك في كتّاب اليوم.
وقد اختار الزهراني لمجموعته الجديدة عنوانًا اجتماعيًا جذّابا (خلّك رجّال) بكل حمولاته الاجتماعية الدافعة إلى رجولة يحددها الكبار، وعلى رأسهم الأب، فيما افتتح الكاتب عمله بما يشبه البيان الاجتماعي ضد هذه الثقافة منتقدًا إياها بهدوء.. ص11.
انشغلت المجموعة ومنذ النص الأول على هذا الهاجس، واستطاع الكاتب تقديم العديد من المضامين والحالات السردية، فجمع بين الطرافة والكوميديا في معالجة أغلب النصوص، والحزن والأسى في نصوص أخرى، لكنه في الحالين كان أقرب إلى طرح رؤاه الخاصة والتصاقه بالحياة والناس ومجتمع القرية وبعض من حارات المدينة: الطائف تحديدًا.
وبعد الانتهاء من قراءة هذا العمل أستطيع القول: إن قراءة اجتماعية لهذا العمل كفيلة باستجلاء روح المجتمع الذي يعيشه الكاتب أو الذي كُتبتْ فيه هذه القصص، وأنماط تفكيره ومواقفه الطريفة، والكثير من اهتماماته وانشغالاته وأحلامه وعوالمه السرية من البيوت إلى غرف النوم، وكذا الأحلام المكبوتة والترميزات الجنسية ص 25 و35 و49 إلى ضجة الكوابيس (حلم امرأة) ص 51 إلى الحكايا الاجتماعية التي تنتمي للبيئات الزراعية بامتياز.
فنصّ (دغيثر) ص 70 - على سبيل المثال - يتكئ على حكاية اجتماعية طريفة: يسمع البطل عن امرأة فائقة الجمال؛ فيقرر أن يراها، وترحّب به، وهي المتزوجة، وتشترط عليه أن يطحن لها كمية كبيرة من الحبوب (جعبة الذرة) حتى ينال طلبه! وتنتهي الحكاية - القصة به مترنّمًا بشِعر يردده متأسيًا على حالته من عاشق جاء ليرى الجمال الباهر إلى طاحن يطحن لها طوال الليل!!
ونرى صورة المجتمع عبر الموضوعات التي طرحها الكاتب: فتاة تنتقل من القرية إلى المدينة، الرجل - العريس وحالة عجزه أمام الأنثى، ومناماته بحضرتها، ونرى ربّ أسرة يهرب إلى المقهى هربًا من (صراخ) أسرته، كاتب يشعر بأن قلمه مهدد أو مغدور، وغيرها.. حتى ماكينات الخياطة والزئبق المكدّس فيها ووَهْم الثراء من وراء جَمْعها.. وصورة المرأة المتطلبة كما في نهاية القصة التي أسماها (s) ص72
قصص علي الزهراني في مجملها ترمز حينًا إلى الكثير من المسكوت عنه كما في نص (ثقب) ص 66 وتطرح مسائل اجتماعية، تصدر عن مجتمع فَكِه، أقامه أو نقل عوالمَه القاصُ بذكاء ودعابات اجتماعية كنص (نظام السيسي) ص 45 الذي يطرح طريقة تعرّف أبناء القرية على نظام ساهر!! ويقدم نوعًا من الكوميديا السوداء التي ترمز ولا تصرح كما في نص (عرش) ص 27، وتظهر السخرية الشديدة في كما في نص عزاء قلم، بيد أنها تضيع في عنصر المبالغة في الاسترسال في إيراد المتردية والنطيحة و... ص 29
ولا ينسى القاص أن ينحاز للكاتب أو المثقف وعوالمه كما في نص (عزاء قلم) ص 29 و(لعبة) ص 26.
تزخر المجموعة بالهمّ الاجتماعي والمأساة الخاصة لبعض شخصياته؛ فنرى البطل يعاني حالة فراق الأم والحبيبة، وغيرها من مشاعر الجحود والحب من طرف واحد ص 38. وكذا مشهد السقوط والعجز أمام الأنثى في ليلة العمر - الزواج ص25 وص 34 و35.
يحضر الشعر الشعبي وكلمات الأغاني في ثنايا المجموعة كجزء مكمّل للمشهد، وأحياناً على سبيل الطرافة وملء المجالس بالحديث وشَحْن الليالي بالسهر والأنس وتزجية الوقت مع الكبار حيناً، وموجّهًا للصغار حينًا آخر ص 69.
=يكتب الزهراني قصصه والمسرح مسيطِر عليه؛ فنراه يميل إلى (مَسْرحة) بعض النصوص جزئيًا كما في نص الطائرة ص 38، أو مسرحة بالكامل كما في نصَّي (انكسار) ص 53 و(عرض) ص 22.
وبعد المقاربة العامة حول المضامين للمجموعة أودّ طرح بعض النقاط السريعة عسى أن تحقق الفائدة:
o تمت الطباعة على ورق جيد، لكن الصفَّ والإخراج الداخليين يحتاجان إلى مراجعة لناحية تنسيق الصفحات وعدم حشر نصين في صفحة واحدة و..
o الخطأ في الغلاف - العنوان (خللك) وفي الداخل (خلّك) مما يثير استغراب القارئ.
o أما المراجعة اللغوية والإملائية فقد غابت بشكل كبير؛ فظهرت العديد من الأخطاء، منها «رغم أن ثمرتيها لم تطفر بعد..» ص 17، «أومأ أباه..» ص 26، و«حمل عروسه بين يديه متأثرة بمسلسلي لميس و..» ص25، «منظر القعدان مسجية...» ص 35، و«قمتُ وثوبي ملطخًا..» و«يقول أكتب..» ص 37، و«هممتُ» ص 42، و«والحجر في صعوده وهبوطة» ص 63، و«عندما فجاءني الردّ..» ص 64، «..دمعتان بللت من بقايا لحيته، واستدار الإبرة...» ص 65، «زهير» ص 69.
o بعض العناوين يمكن مراجعتها كعنوان قصة (خاتم من ذهب وحفرة الحجر) ص 62، وأرى استبداله اختصارًا بـ(الخاتم والحفرة) مثلًا.
ونص (خيانة) أقترح تسميته (امتزاج). وهكذا بعض نصوص الـ(ق ق ج) التي أرى أن يكون العنوان مفتاحًا إلى النص ومكملًا له.
o تظهر بعض المبالغات غير الموفّقة كتكرار (الشكمان والتبويش) بغرض التشبيه في أكثر من مرّة، وربما تكون هذه الصورة الكاريكاتورية أقرب إلى المسرح وعوالمه.
o تقع المجموعة في 80 صفحة من القطع الصغير، واحتوت على 27 قصة قصيرة وقصيرة جدًّا، وزّع القاص (الـق ق ج) بين ثنايا المجموعة بخلاف ما يفعله البعض بجعل الـ (ق ق ج) في آخر الكتاب.
o تدور أماكن القصص بين القرية والمدينة كفضاءين كبيرين، يحتويان على فضاءات صغيرة، كالحارة والفندق والمقهى وساحة العرضة وحتى غرف النوم، وغيرها. ولعلي أزعم أن انفتاح الكاتب على الحياة، والتصاقه بنماذجها كافة، وخصوصًا البسيطة، جعله أقرب إلى رسم شخوص وعوالم واقعية؛ ما يثري التجربة، ويقرّبها من المعنى الإنساني.
بقي القول إننا أمام عمل سردي، يضيف به القاص إلى تجربته الكثير.. وما عليه سوى الاستمرار بالإخلاص لفنه، وتطعيم قصصه بشيء من عوالم المسرح بتركيز ووعي لشروطِ كلّ منهما، والغَوْص اجتماعيًّا للوصول أكثر إلى قاع الحكايا لمجتمع تجري الطرافة والحكاية في دمه، وتنغرس في أنساغه.
وفي ختام هذه القراءة الانطباعية التي لامست معظم وليس كلّ القصص، أؤكد أنها ليست سوى جهد قليل مما يجب. وكما قلت، فإن قراءة أعمق يمكن أن تكشف الكثير عن التجربة وعن صورة المجتمع المسكون بـ»خلّك رجال»، الذي يمدّ الكاتب بالكثير من موضوعاته في عملية تأثير وتأثر كبيرة، استطاع الكاتب عبرها قول الكثير، وما زال أمامه المزيد من انتقاء عوالمه إثراءً للتجربة، ورفدًا للمكتبة القصصية السعودية.
** **
- ظافر الجبيري