لقد كان قدَر فارس منذ سقوط الدولة الساسانية، أن تقع بين نفوذين، نفوذٌ ثقافي تمثّل بالإسلام واللغة العربية لا يزال يهيمن،كلياً أو جزئياً، على حياتها الروحية والعقلية. ونفوذٌ عسكري تمثل بالفتح العربي أولاً ثم بسطوة سلطناتٍ تركيةٍ متعاقبة لا تفتأ تتولّد من تلك الغَيابة الجغرافية بين التخوم الصينية والقوقازية وتقذف بموجاتها هيمنةً على فارس وجوارها ثم سَحقاً لبغداد علي يد جنكيز وهولاكو ثم اكتساحاً لآسيا الصغري وشرق أوروبا على يد العثمانيين. تاريخٌ ممتد من العسكرتاريا البحتة خلواً من أي ثقافة أو رسالة أو نمطٍ حضاريٍ يترك أثره في الأمم المستباحة.
حقبتان يتناولهما معلوف في روايته «سمرقند»، حيث يسرد في الحقبة الأوليى حكاية ثلاثة من نوابغ الفرس جمعهم عصرٌ واحد على اختلاف أعمارهم، وتقاطعت طرقهم في ظل السلطنة السلجوقية التركية. حسن الصبّاح الإمامي ثم الإسماعيلي الذي عمل مع نظّام الملك وخانه فتم إقصاؤه، وذهب مصمماً على زعزعة السلطنة ومعاقبة نظّام الملك ، خادم الأتراك في نظره، ثأراً لفارس، حيث أنشأ أقوى وأغرب منظمة إرهابية في قلعة «الموت» الحصينة. ونظّام الملك سيّد الإدارة وصاحب كتاب «سياست نامه» والمدارس النظّامية، الذي كان يري في نفوذه شبه المطلق تعويضاً لفارس عن الهيمنة التركية وترميماً لكرامتها، والذي راح ضحية فرَق الموت الصبّاحية، بتواطؤٍ رخيص من السلطان والسلطانة. وعمر الخيام الصديق العرَضي لنظّام الملك وحسن الصبّاح والسبب العرَضي أيضاً للعداء المستحكم بين الاثنين. ولقد انتهت هذه الحقبة بخيبة فارسية سواءً ممن خدم السلطنة التركية بتفانٍ أو ممن ناصبها أشد العداء واستهدفها بإرهابه، ولم يبق منها من مجدٍ خفي سوى مخطوط رباعيات الخيام الذي سيظهر مجدداً في حقبة فارسية تالية لا تقل خيبةً عن أولاها.
وفي الحقبة الثانية يحكي معلوف قصة مغامرٍ أمريكي شغوفٍ بالشرق وبتراث الخيّام تحديداً، وهو شغفٌ ورثه من والديه اللذين اهتما بتراث عمر الخيام وأطلقا اسمه على ابنهما كاسمٍ رديف.
ينطلق الشاب من بلدة «آنا بولس» على الساحل الشرقي الأمريكي ويتوقف في باريس لزيارة جدّه، ويتعرف من خلاله على شخصيةٍ مرموقة تَهديه الى النسخة الأصلية من رباعيات الخيّام وخطاب توصية الى أهم شخصية فكرية شرقية في ذلك العصر... جمال الدين الأفغاني المنفيّ في اسطنبول.
ومنذ وصوله الى اسطنبول ولقائه الحميم مع الشخصية المثيرة للجدل جمال الدين، الذي عصفت أفكاره السياسية الطموحة بمنطقة واسعة تمتد من الهند الى مصر مروراً بفارس ودار الخلافة، فقد ارتبطت حياة الشاب الأمريكي بالشرق وبفارس على وجه الخصوص.
يصل الشاب الى طهران فيجد أن أثر الأفغاني أكثر مما كان يتوقعه، حيث يتم قتل الشاه القاجاري على يد أحد تلامذة الأفغاني المهووسين ، المتحوّل حديثاً الى البهائية، والذي تسلم رسالة من معلمه على يد الشاب الأمريكي قبل مقتل الشاه بيوم. وحيث أصبح الشاب مشتبهَاً به فقد اختفى بأحد البيوت بطريقةٍ درامية لتقوم بإنقاذه لاحقاً حفيدة الشاه التي كانت هي الأخرى تلميذة مخلصة للأفغاني وستصبح فيما بعد عشيقة للأمريكي وشريكته في مخطوط الخيّام، ذلك المخطوط الذي كان ويا للغرابة في كيس القاتل لحظة القتل واختفي بين أرجل الجنود، وتمكنت من استعادته فيما بعد.
مثلما احتشد المشهد الفارسي في الحقبة الأولى بعوامل متباينة، فقد احتشد مشهد الحقبة الثانية بنكهات أكثر حدة. وعندما عاد الشاب الأمريكي بعد سنوات الى فارس بتنسيق من أميرته فقد وجد ويا للمفاجأة، أن جمال الدين الأفغاني وكأنما كان يعمل من قبره بعد موته بعدة سنوات. لقد كانت الثورة على الشاه القاجاري الجديد في أوجها وكان تلاميذ الأفغاني يقودون الثورة ويؤسسون للدستور وقيام البرلمان للمرة الأولى في تاريخ فارس. ورغم وقوع الشاه ودولته بين براثن القيصرية الروسية العاتية والمطامع البريطانية المتطلعة للامتيازات، عبر ألعوبة القروض، فإنّ الحركة الدستورية شقت طريقها وفرضت خياراتها، واستعانت بأصدقاء الأمريكي لتنفيذ رؤيتها لإنقاذ اقتصاد فارس بسرعة جارفة، وستكون هذه السرعة غير المدروسة هي السبب في سقوط المشروع بأكمله. وبينما الأمريكي وأميرته يتنادمان في قصرٍ مهجور ويتبادلان الأنخاب في أجواءٍ خياميةٍ بحتة، وعلى إيقاع الرباعيات الخالدة، فقد كان جيش القوزاق القيصري يُجهز على الدستور والبرلمان وقادة الحركة ويُعيد الحياة للشاه الضعيف، وعين الصقر الإنجليزي تمسح كامل الفريسة.
ماذا بقي لصرخات جمال الدين وماذا بقي لتلاميذه ومريديه غير غبار المعركة وفظاظة الجنود القوزاق. ثم ماذا بقي للأمريكي ولأميرته تلميذة جمال الدين غير الرحيل وغير مخطوط الرباعيات جوهرة العصور الفارسية.
وإذا كانت التجربة الفارسية الثانية للانعتاق من الهيمنة الأجنبية قد فشلت، فإن تجربة ثالثة ستفشل هي الأخرى بعد حوالي نصف قرن، وسيخرج الزعيم الوطني محمد مصدّق من معركته الوطنية مع شركات النفط الأمريكية مثخناً وخالي الوفاض، وستسقط فارس بعدها بثلاثة عقود في قبضة نظام ثيولوجيٍّ ثقيل.
يرحل العاشقان الى فرنسا ويتزوجان هناك، وفي طريقهما الى «آنا بولس» في الولايات المتحدة الأمريكية يحجزان في أفخم وأحدث وأكبر باخرة تم بناؤها في ذلك الوقت «تايتانك». رحل الشاب وفي معيّته جوهرتان، إحداهما معتّقة السطور رثّة الأوراق تفيض عذوبتها عبر العصور، والأخرى في محياها كل سمات الشرق ونبالة المحتد وروحٌ قومية متقدة لا تطفئها بهرجة الغرب. وإذا كانت «تايتانك» تليق بهذه النفائس الشرقية وتكاد بمتانتها وإحكام بنائها تستعصي على العطب، فإنها تصطدم بأول جبلٍ جليدي يقابلها في رحلتها الأولى وتسقط في أعماق المحيط في ليلة فزعٍ هائلة. وتشاء الأقدار أن يكون العاشقان من بين الناجين القلائل، فيما يستقر مخطوط الخيّام، بخزانته الحديدية المحكمة، في قاع البحر، وكأنّ الجواهر النفيسة تأبى إلا أن تعود لمكامنها الأصلية.
أي حشدٍ للأحداث والشخصيات وغرائب الصدف ينتقيه أمين معلوف ليصوغ رواية هي الأخرى جوهرة فريدة بين الروايات.
** **
- عبدالرحمن الصالح