هل يوجد للوعي هوية؟ .. أي هل بالإمكان القول: وعي عربي ووعي أوروبي ووعي أمريكي وهندي وكردي وبلوشي وأزيدي وصابئي وهندوسي ..إلخ؟ أي هل يمكن نسبة الوعي إلى دين أو قومية أو منطقة أو دولة؟ وهل يمكن الإجابة على هذه الأسئلة دون طرح السؤال الأهم: ما هو الوعي؟ ولماذا يميز الإنسان عن الحيوانات؟ وهل هو ثابت أم متغير؟
فعاليات الدماغ العلمية المنفصلة افتراضاً عن العاطفة تسمى عقل، ومن هنا جاءت العقلانية: بمعنى التجرد من العاطفة. ولكن العقل لوحده ليس وعياً، فالإبداع الفني لا يتحقق إلا بالعاطفة، وهو أي الإبداع من الفعاليات الأساسية للدماغ أي أنه جزء أساسي من الوعي. كما أنه لا يوجد فعاليات عقلية بحتة مجردة تماماً من العاطفة، ولا يوجد إبداع خالي تماماً من التفكير. ولذلك محصلة النشاط الدماغي المرتبطة وغير المرتبطة بالعاطفة تسمى وعياً، ولكن هذا الوعي إذا لم يتجسد سلوكياً يبقى مجرد معرفة ليست ذات جدوى، أي لا بد للمعرفة أن ترتبط بالسلوك كي تكون وعياً.
لا يولد الوعي جاهزاً أي أنه مكتسب، فالطفل المولود تواً لا يملك وعياً، هل سمعت بطفل ولد شاعراً؟ أو عالم رياضيات مثلاً؟ وكيف يمكنه أن يكون كذلك إذا لم يمتلك اللغة، وهي الأداة الأولى لتجسيد الوعي؟ ولذلك من يتحدث عن الفطرة لا بد من توضيح ما يتحدث عنه، وهذا ليس كرماً منه، إنما حق المجتمع عليه وعلى أمثاله أن يكون كلامه مبنياً على منطق. الطفل المولود يتعلم لغة الجسد والصوت ليحصل على حاجاته الأولية، ثم يتعلم النطق واللغة للتواصل مع من حوله، أي يتعلم من تجربة أفراد المجتمع اللصيقين به، وعندما يبلغ السادسة من العمر يدخل المدرسة ليتعلم من تجربة أفراد ليسوا لصيقين به، بل من تجربة البشرية كلها، ومن هنا تبرز أهمية المناهج الدراسية التي يجب أن تواكب تراكم التجربة الإنسانية، وأن الوعي مجبول على النمو، وإذا توقف عند نقطة أو زمن أو جغرافيا فإنه يموت ويخرج صاحبه من الزمان والمكان، ويصبح أداة طيعة لقتل التطور البشري.
هدف الوعي منذ نشوئه فردياً أو اجتماعياً هو التطور والازدهار الإنساني، ولذلك تصبح المعرفة أو الثقافة أو مخزون الذاكرة ليس ذا جدوى إذا لم يقترن بالسلوك! أي أن الموقف الاجتماعي ليس خياراً، فأنت مجبر أن تكون مع الظالم أو المظلوم وإلا كنت خارج الزمان والمكان. ما أريد تسليط الضوء عليه هو أن المخزون المعرفي الناتج من التجربة الاجتماعية والفردية لا يمكنه أن يكون وعياً إلا إذا تجسد سلوكياً على المستويين الفردي والاجتماعي.
إذن محاولة تعريف الوعي لابد أن تكون مستندة لكل مواصفاته وليس إلى جزئية واحدة وحسب، أي أن الوعي هو: تجسيد المخزون المعرفي الناتج من التجربة الاجتماعية في الواقع المعاش. ومن هذا المنطلق لا يوجد وعي مطلق، إنما وعي نسبي فلا يوجد مخزون معرفي متطابق لدى المجتمعات المختلفة، ولا لدى أفراد المجتمع الواحد. كما أن تجسيد ذلك المخزون أي السلوك يتطلب التعامل مع الواقع، والواقع المعاش يعاني صراعاً شديداً يصل إلى الدموية في الكثير من الأحيان، وخاصة في عصرنا الحالي، ولذلك يوجد حقلين للوعي هما: وعي المظلومين الذي يتجسد بإحقاق العدالة الاجتماعية بفصل السلطة الدينية عن السياسية ونبذ الفردانية وهي: (العمل لتحقيق المصلحة الأنانية الذاتية) والتوقف عن إقصاء الآخر وما إلى ذلك، وهو وعي إيجابي، ويوجد وعي معاكس لذلك كله وهو وعي سلبي!
بين هذا وذاك توجد أطياف تدعي الوسطية، وهي وسيلة للتستر على الموقف الاجتماعي الحقيقي، حيث أن هذه الأطياف إما أن تدعوك للتنازل عن اصطفافك لصالح المظلومين أو الظالمين وتدعو ذلك وسطية! وهي تتستر ليس بالوسطية وحسب، إنما تحاول نسبة الوعي إلى القومية (وعي عربي، هندي، كردي، انجليزي ..إلخ) أو إلى الإثنية (وعي قبيلي، خضيري، أصيل، هجين ..إلخ) أو إلى الديانة (الوعي الإسلامي، المسيحي، اليهودي ..إلخ) أو إلى الجغرافيا (وعي غربي، شرقي، جنوبي، شمالي).
ولن أتناول هذه التوصيفات المغرضة كلها، ولكن إذا قلت الوعي العربي ماذا تقصد؟ العرب الموالين للسلطان أم الموالين للمظلومين؟ وإذا قلت أيديولوجية العرب المظلومين، فهل أنت على يقين أن هؤلاء كلهم يختزنون نفس الكم من التجربة أو المعرفة ولهم نفس الموقف الاجتماعي؟
** **
- د. عادل العلي