د. عبدالحق عزوزي
في ملتقى فكري كبير عقد بأبوظبي عن دول مجلس التعاون الخليجي ومكافحة الإرهاب، أشرت في تدخلي إلى مسلمة مفادها أنه لا يمكن تصور دينامية اقتصادية ولا اجتماعية ولا تنموية بل ولا دفاعية دون تكتلات إقليمية؛ وتسجل لنا أوراق التكتلات الإقليمية والعالمية تواجد مجموعات عديدة تتخذ أشكالا وأنواعا وبأهداف متنوعة حسب مختلف مناطق العالم، لكن بنفس الغاية وهي ألا تظل معزولة، وحتى تستفيد بشكل كبير من التجمع لتعزيز مكانتها الاقتصادية/ السياسية ومن أجل مواجهة التحالفات الإقليمية الأخرى والتحالفات العابرة للأقاليم والقارات أحياناً. وتوجد حاليا، وبحسب المنظمة العالمية للتجارة والمنظمة العالمية للتعاون والتنمية الاقتصادية، أكثر من 130 اتفاقية إقليمية والتي تتخذ أشكالا مختلفة. ومن هذه الاتفاقيات: 1) منطقة التبادل الحر، 2) الاتحاد الجمركي، 3) السوق المشتركة، 4) الاتحاد الاقتصادي، 5) الاتحاد النقدي، 6) اندماج السياسات الاقتصادية، 7) أنواع أخرى للجمعيات ومنتديات التعاون الاقتصادي، السياسي وأحيانا الثقافي أو اللغوي.
كما أن الأزمات لا تحل بمعالجة نتائجها، وإلا فإنها ستولد أخرى وأخرى إن بقيت الأسباب الجوهرية والبنيوية والتكوينية من دون علاج، ويمكن أن نسرد هنا مثال الاتحاد من أجل المتوسط، فهو لم ينجح لأن في منظومته دول جنوب المتوسط؛ ولكن الاتحاد الأوروبي نجح لأنه لا يوجد في منظومته إلا دول الشمال. وباستقرائنا لهاته التجربة سنقف عند قواعد مؤثرة يمكن لنا أن نشرح بعضا من أسباب تعثر التكتل الإقليمي العربي وإمكانية تصور حلول ناجعة وهادفة. فالاتحاد الأوروبي هو أولا وقبل كل شيء مشروع فكري تبلور في أذهان فلاسفة وحكماء أوروبيين وفقهاء قانون قبل أن يتحول إلى مشروع سياسي ساهم في تثبيت لبناته رؤساء الدول والحكومات وصفوة من النخب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في مختلف القطاعات الأوروبية. وشكلت الرؤى المختلفة في الدول الأعضاء على خلاف تجربة المنظومة العربية مخزونا لا يبيد نهلت منه النخب السياسية الأوروبية عندما بدأت الظروف الجيوستراتيجية الجهوية والعالمية تتطور.. ولقد تمكن الاتحاد الأوروبي من إنجاز كل ما تحقق إلى حد الساعة بفضل بنية مؤسسية وتنظيمية جعلت منه نظاما سياسيا وقانونيا وحدويا له اليوم احترام وتقدير قل نظيرهما. نرى في اجتماعات الاتحاد الأوروبي كيف إن كل قائد أوروبي يوقع على مختلف الاتفاقيات بجوار فقرة مكتوبة بعشرات لغات الاتحاد الأوروبي، أي بمداد الوحدة ونكران الذات؛ ونرى كيف إن القادة الأوروبيين يتجاوزون الفكرة القومية إلى ما هو أعلى منها وأكثر ملاءمة لتطور الأحوال والأزمان...وهذا التجاوز يتم من الدولة- الأمة كمثل ألمانيا أو إيطاليا إلى ما هو أعلى منها وأوسع وأشمل، بينما لم تتمكن الفكرة العربية أساسا منذ أزيد من عقدين، من أن تتجسد في دولة-أمة كي تنظر في إمكانية تجاوزها إلى ما هو أعلى وأوسع وأرقى. بل أوليس من واجبنا أن نتوقف لحظة أمام البناء الأوروبي المتدرج بناء، المدهش حقا في تجاوزه لتحفظات الكثيرين ولأثقال الماضي وفي اعتماده حصرا على رؤى نخب تنظر نحو البعيد ولا تكتفي بالعناصر البارزة للواقع... ثم أوليس من واجبنا أن نتوقف لحظة أمام بناء اوروبي يضم لغات عديدة لدرجة أن عدد المترجمين في مؤسسات الاتحاد يزيدون على اثنين من أصل كل خمسة موظفين فيها؟ وأوليس من واجبنا أن نتوقف أمام صلابة الثنائي الألماني-الفرنسي في عملية البناء هذه بعد أن كان الثنائي قد تمزق في حروب ثلاث طاحنة في الأعوام870 و1914 و1939؟
فتواجد عامل الدول المحورية وتفعيل ذلك مؤذن بقيام وحدة تكتلية صلبة... وهذا طبعا دينامو أي تعاون أو تكتل إقليمي، فبدون دول محورية كبر أربعا على وفاة المنظومة الإقليمية. وإذا بقينا في تاريخ الاتحاد الأوروبي الذي دائما ما أسرده كمثال حي لتكتل جهوي ناجح وله من السمات ما يمكننا استخلاص الدروس والعبر الحقيقية والصالحة لنا، سنجد أن هذا الاتحاد مكون من 28 دولة، والدول المحورية التي قادت وتقود سفينته باستراتيجية خارقة للعادة وبدون كلل أو توقف، سنجدها طبعا في دولتين رئيسيتين، فرنسا وألمانيا؛ والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة هي بحق اليوم من الدول المحورية سواء في إطار مجلس التعاون الخليجي أو جامعة الدول العربية، خاصة وأنه لم تبلغ الأخطار الخارجية المحتملة ضد دولها كالتي تواجهها اليوم مع زيادة الخطر الإيراني وتراجع الالتزام الأمريكي بالدفاع عنها.