د. محمد بن إبراهيم الملحم
عندما بدأتُ كتابة مقالاتي في هذه الزاوية التي خصصتها للشأن التربوي والتعليمي قررتُ أن يكون عنوان الزاوية «صفر واحد». ولتفسير معنى هذا العنوان فإني أقترف خطيئة لا يرتضيها نقاد الأدب الحديث في تفسير المبدع (بمعنى الكاتب) لنصوصه، بيد أني سأستغل عدم عنايتهم بمقالات التربية وهمومها؛ وبالتالي غيابهم عنا، لأمارس هذا الإثم قليلاً، وأسر لكم أن هذا العنوان لا ينطلق من معنى واحد، بل معانٍ لا نهائية؛ فأحدها أنه تعبير أهل الرياضة في نتيجة المباراة الحاسمة، لكنه مقلوب (صفر ثم واحد) خلافًا للمعهود (واحد - صفر)؛ إذ هنا يصدح الصوت الأعلى للمغلوب؛ لأنه يتطلع إلى التطوير والإصلاح والارتقاء بتعليمنا المتدهور في كل المباريات والمنافسات ذهابًا وإيابًا، صعودًا ونزولاً، بخروج المغلوب أو بالنقاط. ثم معنى آخر أنه صفر واحد فقط.. ذلك الابتكار العربي في الرياضة الذهنية في علم الحساب والأعداد والجبر؛ إذ ابتكر الخوارزمي الصفر؛ لينقل مفاهيم الرياضيات في عصره بسرعة الضوء، وبقفزات كمومية هائلة، ينطلق فيها الفكر الرياضي محلقًا فوق غيوم الابتكار والإبداع. وهو أيضًا صفر واحد ليس غيرهما، عددان صاغ منهما علماء الحاسب الآلي لغته الثنائية التي يمكنه أن يتكلم بها (01)؛ فالدوائر الإلكترونية ليس لها سوى حالة واحدة من حالتين (تشغيل أو إطفاء)، أو (مرور تيار/ عدم مرور)، أو (وجود مجال مغناطيسي/ اختفاؤه)؛ لتكون كل هذه الثنائيات باختلاف الحلول التكنولوجية الممكن توظيفها لأي حاسب يمكن ابتكاره هي الوسيلة الوحيدة الممكنة للتخاطب مع الآلة، وإبلاغها برسالة الإنسان؛ وبذلك تكون لغتها من حرفين اثنين أو رمزين أو رقمين. وأفضل خيار هو ثنائية صفر واحد؛ لأن صفر تعني عدم وجود الشيء (أو التيار الكهربائي)، بينما واحد تعني وجوده. ومن هذه اللغة ترجمت كل حروف لغاتنا التي يتكلم بها الإنسان إلى هذه اللغة. فمثلا حرف B يعبر عنه بـ(1011).
صفر واحد يتبعهما اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة وستة.. إلى آخر الأعداد؛ فهي بدء الكلام إذا أردنا أن نعبِّر بسلسلة رياضية ذكية مختصرة، ترمز إلى الحركة والتقدم والوصول إلى النهاية (أو ربما اللانهاية). فما إن ننبس بـ(صفر واحد) حتى يفهم المراد. بُعد آخر أيضًا: أن الصفر مع الواحد له شأن آخر من نمط مختلف؛ فالعد يسير في مساقه النمطي من الواحد حتى التسعة بخانة واحدة فقط، وبعدها يتوقف هذا النمط؛ لتبدأ المزاوجة في توليف أسلوب جديد للأعداد مختلف تمامًا عن سابقة ذي الخانة الواحدة؛ إذ يتحد رقمان (صفر وواحد)؛ ليكونا أول عدد يثور على عملية العد من نمطها البسيط إلى نمطها الجديد «المركب»، ويتتابع هذا التحديث إلى آخر الأعداد، وهو في الواقع «جملة رياضية» إن كانت الأرقام السابقة له كلمات. أسلوب تفكير جديد صاغه الصفر مع الواحد لنسق الأعداد، وبنفس الرؤية، فهو في العنوان يمثل هذه النقلة الفكرية في تحليل الموقف التربوي، أو أي شأن ستعالجه هذه الزاوية مستقبلاً.
ماذا أيضًا؟ لن أكمل.. بل أترك لكم الفرصة للتفكير في إبداعات توليفة هذا العنوان «صفر واحد» ومعانيه الجميلة، التي أرجو أن تنعكس كلها على محتوى مقالات هذه الزاوية فعلاً، وتجدوا فيها ما تطمحون إليه من الفكر الجديد، والرؤية الطموحة، والتحليل السليم.. وأشير ختامًا إلى أني أحاول من خلال هذه الزاوية إبراز قيمة التقويم التربوي في الإصلاح والتطوير والارتقاء باستراتيجيات التعليم وعملياته.. ولا أخفي تحيزي في هذا الجانب - بوصفي متخصصًا فيه وهاويًا له في الوقت نفسه. والأمر نفسه ينطبق على تخصصي في التعليم الدولي؛ إذ تفرض الاستشهادات الدولية ذاتها على مقالاتي من فترة لأخرى. ولست في هذا مفضلاً ثقافات الأمم الأخرى علينا؛ فلنا إرث ثقافي عظيم، ولكن لا يمكن استخدامه حاليًا - مع الأسف - إذ هو تاريخ غير منظور، وتجربة غير معاشة، بينما ما تمارسه الدول المتقدمة اليوم هو تجربة حية، ونتاج إرث أممي حضاري يتماشى مع ظروفنا وطبيعة حياتنا التي أصبحت متشابهة بين أمم الأرض كلها تقريبًا في ظل الانفتاح الاتصالي والثقافي، عمومًا.. إلى صفر واحد.