أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، سبحانه وبحمده لم يزَل للثناء والحمدِ مُستحِقًّا، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله، وصحبِه، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن توالى المناسبات والمفاخر والمآثر لهذه البلاد المباركة، والأرض الطيبة، والبقاع المقدسة المملكة العربية السعودية, وما تشهده من تحولات نوعية, وتطورات متميزة، في تسارع منقطع النظير، مع تمسك بالمبادئ، ومحافظة على أصول الشريعة، والتأكيد دائماً وأبداً، قولاً وفعلاً على ثوابت المملكة ومنهجها الذي قامت عليه ولازالت وستظل بإذن الله, فهي دولة الكتاب والسنة, وثوابتها التي نص عليها نظام الحكم نابعة منهما, وكل مسؤول في هذه الدولة الآمنة المطمئنة المباركة لا يحيد عن هذين المصدرين الأساسيين, ولا يتوانى في خدمتهما، فهما الأساس الذين قامت عليهما هذه البلاد المباركة، والمتأمل لتاريخ بلادنا الحبيبة المباركة المملكة العربية السعودية - بلاد الحرمين الشريفين، وقبلة المسلمين ومتطلعهم والمعينة لقضاياهم، والناصرة لكل مسلم في كل أرض، والحارسة للمقدسات، والحامية للحرمات - يرى ويطلع على ما يسره، وتقر به عيناه، ويثلج صدره، ويجعله متفائلاً، يتطلع إلى المزيد والمزيد من العطاء والنماء، والتقدم والرقي؛ لأنها بلد العقيدة الصحيحة، والمنهج السليم، بلد الأمن والأمان، والطمأنينة والاستقرار، ورغد العيش وتطبيق شرع الله، وتنفيذ أحكامه وحدوده، لا يُعرف لها نظير في جميع بلدان العالم في ذلك، قريبة كانت أو بعيدة، يشهد بذلك العدو قبل الصديق، ويقرُّ به القاصي والداني، فحمداً لله، وشكراً له على ما أنعم به علينا من نعم عظيمة، وآلاء جسيمة.
إنه منذ أن التقى الإمام محمد بن سعود بالإمام محمد بن عبدالوهاب رحمهما الله، وتعاهدا على نصرة توحيد الله، وإعلاء كلمته، والدعوة إليه، وانطلاقاً من عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله، الذي بذل نفسه وماله ووقته وولده من أجل توحيد الجزيرة على كلمة التوحيد، ولم شتاتها، وجمع كلمتها، والتوفيق بين أبنائها، وتحكيم شرع الله فيها، في وقت كانت أحوج ما تكون إلى ذلك، وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - قائد مسيرة هذه البلاد، وباني نهضتها، وهذه البلاد في عزة ومنعة، وقوة وثبات، وازدهار، ولا غرابة في ذلك ما دام أن ولاة أمرنا ينطلقون في حكمهم وأحكامهم، ومعاملاتهم وتصرفاتهم ومواقفهم، من المصدرين الأصليين، والمنبعين الصافيين للإسلام: كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه السلف الصالح لهذه الأمة (عقيدة، وشريعة، ومنهجاً، وأخلاقاً) فعقيدة التوحيد الصافية هي التي لا عز ولا نصر ولا تمكين إلا بالأخذ بها والسير على نهجها وهداها، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}، وقال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي»، ومن هنا جاءت تلك النظرة الثاقبة، والانطلاقة الصائبة، والسياسة الحكيمة المبنية على الأصول الثابتة، والقواعد الراسخة لهذه الدولة من قِبَل ولاة أمرها في دفع عجلة البناء، وبذل كل ما يُستطاع من إمكانات مادية ومعنوية من أجل خدمة المواطن وإسعاده، والسهر على راحته، وتهيئة الجو المناسب له في كل ما يحتاجه في حياته اليومية، فردية كانت أو جماعية، حتى أصبح المواطن السعودي يُشار إليه بالبَنان، ويُنظر إليه نظرة تقدير واحترام، حيث أصبح رجل العقيدة الصحيحة، والعلم والأخلاق والآداب العالية، والأفكار والآراء الناضجة، له صولة وجولة في كل ميادين الحياة، فهو لله عابد، وله راكع ساجد، وفي العلم بارع، وفي الفضاء رائد، وفي البحار غواص، وللخير سابق، وفي كل مجال متمكن وفائق.
إن السير على هذا المنهج الرشيد, والموقف السديد, في نصرة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وتحكيمهما في شؤون الحياة, مع الأخذ بمعطيات التطور والنمو والارتقاء, في توازن مدروس, ووسطية تمثل الفهم الحقيقي لهذا الدين, هو ديدن هذه البلاد المقدسة وولاة أمرها على مر الأيام، ولذا فإن أي عمل نبيل، ومقصد سامٍ يقوم على خدمة الأصلين والمنبعين الصافيين، ويحقق نشر هدايتهما ويدعو إلى التمسك بهما فإن ولاة أمرنا – أيدهم الله- في طليعة من يتبنونه ويوجهون به، بل ويبادرون إلى دعمه وتشجيعه، ويأتي في هذا الإطار الذي يعد جزءًا من سياسة المملكة العربية السعودية, وأساسًا من ثوابتها ذلكم القرار السامي، والأمر الملكي، والتوجيه السديد، والمبادرة الرائدة من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله وأمد في عمره على الطاعة والإيمان- المتمثل في الأمر بإنشاء «مجمع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود للحديث النبوي الشريف بالمدينة المنورة» الذي سيكون بإذن الله مركز خدمة للسنة النبوية، ونشر لهدايتها، وتأطيراً للأعمال المتعلقة بها، وملتقى للمختصين والمعنيين والعاملين في هذا الحقل المبارك، وسيكون بإذن الله منارة هدى، ومجمع خير، وقبس نور تشع منه السنة النبوية المطهرة وتنتشر في كل أرجاء المعمورة، مع ما سيرافق ذلك إن شاء الله تعالى من عناية بالسنة، وبحث في معانيها، وسبر لأغوارها، وغوص في بحارها، وكشف عن دررها ونفائسها، ترجمات لمعانيها لمختلف لغات العالم، وتنقية لدلالاتها من غلو الغالين، وانتحال المبطلين، وتشويه الملاحدة والمرجفين فاللهم بارك الجهود، ووفق القائمين عليه، واجعله في موازين أعمال مليكنا المفدى وولي عهده.
إن الدلالات العامة والخاصة لمثل هذا الأمر السامي الكريم تصب كلها في تعزيز المنهج الذي قامت عليه هذه البلاد، وقوة تمسكها بثوابتها، فالأخذ بالسنة وفهمها, والعناية بها علمًا وفهمًا ونشرًا ونصرةً هو من العواصم المنجيات والمسؤوليات التي يتحملها المسلم تجاه هذه الشريعة الغراء, كيف لا وهي هدي من أمرنا الله بالاهتداء به واقتفاء سنته، واتباع شريعته، والاقتداء به في كل الأحوال, فقال جل شأنه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، وقال {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}، والتزام الهدي النبوي هو السبيل للسلامة من الفتن والمشكلات والأزمات, والبعد عن البدع والخرافات, والرد على أهل الشبهات الذين حادوا عن الصراط المستقيم, فالعناية بذلك من أسباب العز والنصر، وهذا ما يعزى إليه ما تعيشه بلادنا، ولله الحمد.
ومن أبعاده ودلالاته العامة: إبراز مكانة السنة، وإظهار كنوزها وذخائرها ولا يخفى على أحد هذه المكانة العالية للسنة النبوية المطهرة، إذ تعد السنة النبوية المطهرة كما هو معلوم المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية, بل قد تكون المصدر الأول في كثير من الأحكام, والرسول صلى الله عليه وسلم أوتي القرآن والسنة معًا, قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب:34], وقال سبحانه: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}.
وقد ذكر الشافعي, ويحيى بن كثير, وقتادة, وغيرهم: أن المقصود بـ «الحكمة» السنة؛ لأن ما يتلى في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم إمَّا القرآن وإمَّا السنة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به, أو نهيت عنه, فيقول: بيننا وبينكم القرآن فما وجدنا فيه من حلال استحللناه, وما وجدنا فيه من حرام حرمناه, ألا أني أوتيت القرآن ومثله معه», وقد أخبر الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.
فجعل الهوى قسيماً مبايناً للوحي فإما اتباع لهوى الرسول صلى الله عليه وسلم وإما وقوع في الهوى، ويؤكد هذا المعنى قول الله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}ـ ولهذا متى ما صحت السنة، وثبت النقل لم يكن للمسلم الخيرة في الخروج عنها، قال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
وجعل ذلك من أصول الإيمان فقال عز وجل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.
وفرض على المؤمنين طاعته, لأنها من طاعة الله, فقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}.
وإذا كانت هذه منزلة السنة النبوية فنحن في هذه العصور بأمس الحاجة إلى مثل هذه الأعمال الجليلة التي تقدم هذه الشخصية العظيمة التي بهرت الألباب والعقول، واختصها الله عز وجل بما يجعلها قدوة للمسلمين وحجة على العالمين، لا سيما ونحن نشاهد خللاً في التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع سنته وهديه، بلغ أن تجاسر من ضعف عقله وعلمه ودينه على مقامه العلي؛ وتطاول على سنته، وأورد عليها الإيرادات التي تنم عن ضحالة في الفكر، أو سوء تنشئة، والعجب أن يكون أولئك من أبناء المسلمين، ناهيك عن استهداف الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته من غيرهم، والحق أن هذه الأمة تتحمل المسؤولية عن هذا التقصير الذي أوجب مثل هذه الصور الغريبة المسيئة للإسلام وأهله، فلدينا خلل في التربية والتنشئة، وفي تجسيد القدوات أمام الأبناء، وفي الانفتاح المذموم الذي أوجب مثل هذه الانعكاسات السلبية التي أشرت إليها، ومن هنا فنحن مطالبون بأعمال تتجاوز الدفاع الذي يضعف فيه الخطاب، وقد لا يقدم شيئاً يذكر إلى تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، وأخلاقه العظيمة، ومواقفه الجليلة، وكذلك سنته المطهرة إلى المسلمين وغير المسلمين، والبدء يكون من الداخل، فما أحوجنا إلى أعمال وجهود متضافرة تحقق هذا الهدف، ويقيني أن هذا المجمع سيقدم شيئاً كثيراً –بإذن الله- مما سيصب في خدمة هذه الأهداف السامية الجليلة.
ولكي يتبين شيء من أبعاد هذه القرار لابد من الإشارة إلى علاقة السنة بكتاب الله جل وعلا فهي مع القرآن كالشهادتين لا تتم إحداهما إلا بالأخرى، وقد بين الشافعي رحمه الله أنه لن تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها, قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد}، وقسّم رحمه الله الأحكام إلى أقسام:
* الأول: ما أبانه الله لخلقه نصًّا, كذكره لمجمل فرائضه: من الزكاة, والصلاة والحج, وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن, وتحريم الزنا, والخمر, وأكل الميتة, ولحم الخنزير, وبيان فرائض الوضوء.
* الثاني: ما جاء حكمه مجملاً, وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته القولية, والفعلية, والتقريرية, كتفصيل مواقيت الصلاة, وعدد ركعاتها, وسائر أحكامها, وبيان مقادير الزكاة, وأوقاتها, والأموال التي تزكى, وبيان أحكام الصوم, ومناسك الحج, والذبائح والصيد, وما يؤكل وما لا يؤكل, وتفاصيل الأنكحة, والبيوع والجنايات, مما وقع في القرآن مجملاً في القرآن، وهو الذي يدخل في الآية الكريمة: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون}.
* الثالث: ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم مما ليس فيه نص حكم بالقرآن, حيث فرض الله في كتابه طاعة رسوله, والانتهاء إلى حكمه في قوله: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِين}, وقوله: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}, فمن قبل هذه السنة امتثل أمر الله جل جلاله.
وقد تعرض ابن القيم رحمه الله في بيان وجوب اتباع السنة ولو كانت زائدة على ما في القرآن إلى مثل هذا التقسيم فقال: «والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
* أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه؛ فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها.
* الثاني: أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له.
* الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت عن تحريمه.
ولا تخرج عن هذه الأقسام, فلا تعارض القرآن بوجه ما, فما كان منها زائداً على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم : تجب طاعته فيه, ولا تحل معصيته, وليس هذا تقديما لها على كتاب الله, بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله, ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى, وسقطت طاعته المختصة به, وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به, وقد قال الله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}, وكيف يمكن أحدا من أهل العلم أن لا يقبل حديثا زائدا على كتاب الله؛ فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها ولا على خالتها, ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب؟».
وعلى هذا فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثروة خصبة في بيان مجمل القرآن, وتخصيص عامه, وتقييد مطلقه, وتشريع أحكام لم يأت لها نص في القرآن, وهي مادة غزيرة تغذي مقاصد الإسلام, وتنمي أحكام شريعته, ومن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله عز وجل أشد قبولاً؛ لأن الله فَرَض طاعة رسوله, ولا يحل لمسلم عَلِمَ ما في الكتاب أو السنة أن يخالف واحدًا منهما.
وبهذا ندرك أن الحرص على إظهار السنة, وحفظها وحمايتها من التغيير والتبديل, وحفز الهمم على الاهتداء بما فيها من حكم وأحكام, ومقاصد ومعانٍ يعد من حفظ الشريعة, ونصرها, ومن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم, وبه يظهر ما حبى الله به مليكنا المفدى، وإمامنا المسدد خادم الحرمين الشريفين، وناصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وله من إحيائها النصيب الأوفر من هذا القرار التأريخي والأمر المبارك الذي لا يمكن أن يقادر قدره, ونحتسب على الله جل وعلا أن يكون مليكنا المفدى وولي أمرنا المبارك ممن يحيون السنة النبوية, ويعملون على نشرها, وأن يكون يوم القيامة ممن يرزقون شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, ويردون حوضه لقاء ما يقوم به من هذه الأعمال الجليلة المباركة.
وحقًا فإن هذه هي النصرة التي يكون لها أثرها الفاعل لمواجهة خصوم الإسلام, والذين وقعوا في عرض المصطفى صلى الله عليه وسلم, كما أننا نحتسب على الله أن يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
والمتأمل لهذا القرار المبارك يلحظ التميز, فهو فريد من نوعه في هذا المجال المتعلق بالسنة النبوية, وبهذه الشمولية وتنوع المستويات ما شكل مثار إعجاب كل مسلم، وأفرح كل محب للسنة النبوية المطهرة, وسيلبي الحاجة للبحث العلمي الرصين الذي يعنى بموضوعات غاية في الأهمية مرتبطة بالسنة النبوية, وكذلك تكريم العلماء العاملين في مجال نشر السنة المطهرة وخدمتها, وتشجيع المختصين, وكل ذلك يصب في خدمة السنة النبوية.
ومن إشارات التوفيق وعلامات النجاح بإذن الله اختيار مكانه فقد اختير أن يكون في مهاجر صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم, إشارة إلى أن هذا الارتباط يحمل أبعادًا مهمة, فالمكان مبارك بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن البركة أن يكون ما ينطلق من أنشطة وجهود يباركها الله, ثم هي مشع النور, ومنها انتشرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وعني العلماء بها قديمًا وحديثًا, فكان المسجد النبوي المكان الأمثل لانعقاد حلقات العلماء يؤهلون طلبة العلم بما ينهلونه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, حتى بلغ العلم الآفاق, بل إن العلماء –رحمهم الله– يقررون أن للمكان أثرًا في التصور والحكم, ولهذا عدّ الإمام مالك رحمه الله عمل أهل المدينة حجة, وسبب ذلك بأنهم على حسن حالهم وقرب عهدهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة عملاً, فاعتبر أن للمكان أثرًا على التصور والحكم.
وكذلك ما تضمنه الأمر الملكي المبارك من التشكيل والهيكلة الإدارية ليكون للمجمع مجلس علمي يضم صفوة من علماء الحديث الشريف في العالم يتم اختيارهم على أعلى المستويات، لتكوين النخبة التي يتطلع الجميع إلى أعمالها ونتاجها، وكذلك تضمن الأمري الملكي بنداً يعين بموجبه رئيس المجمع وأعضاؤه بأمر ملكي بما يظهر حجم الاهتمام والمتابعة لشؤون المجمع، ويكشف عن مدى التطلعات التي يحظى بها من لدن القيادة الرشيدة -حفظها الله- وكان تعيين معالي الشيخ الأخ الزميل/ محمد بن حسن آل الشيخ عضو هيئة كبار العلماء رئيساً للمجلس العلمي للمجمع محل استبشار وفرح وغبطة، فهو الرجل المناسب في المكان المناسب.
إن المنتظر من هذا المجمع المبارك بما يحمله موضوعه من قيمة عالمية، ومكانة في قلوب جميع المسلمين أن يشهد حراكًا وفعاليات متنوعة كلها تصب في خدمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم لتمثل هذه الجهود صورة مثالية رائعة في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ونشرها وإحيائها, وإثارة اهتمام المختصين والعلماء والكافة بها، فيكفي مليكنا المفدى فخرًا هذا العطاء الذي يحفظ سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويربط الأجيال الحاضرة والمستقبلة بها, ويستثير كوامن الإبداع ويستثمر الطاقات لترتقي الأمة إلى مكانتها في الصدارة والريادة, ونرجو الله أن يدخل فيمن قالَ فيهمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما أخرجهُ ابن ماجة والترمذيُّ وحسَّنهُ منْ حديث عمرو بنِ عوفٍ المزني رضي الله عنه: (منْ أحيا سنةً منْ سنتي فعملَ بها الناسُ كانَ له مثلُ أجرِ منْ عملَ بها, لا ينقصُ منْ أجورهِم شيئًا).
ومنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه الذي أخرجه الترمذيُّ وحسَّنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (ومنْ أحيا سنتي فقدْ أحبني, ومن أحبني كانَ معيَ في الجنَّة).
وإننا لنشكر الله جل وعلا على ما منّ به من آلاء جسيمة, ونعم عظيمة, أعظمها نعمة التوحيد والعقيدة الصحيحة, ونعمة الأمن والاستقرار, ونعمة هذه الولاية الراشدة التي ننعم في ظلها من قبل ولاة أمرنا الأماجد, وحكامنا الأوفياء, وعلى رأسهم ملك الحزم والعزم، السلم والسلام، خادم الحرمين الشريفين الملك/ سلمان بن عبدالعزيز, وسمو ولي عهده الأمين وزير الدفاع صاحب السمو الملكي الأمير/ محمد بن سلمان بن عبدالعزيز, حفظهما الله ذخرًا وعزًا للإسلام والمسلمين, والحمد لله على هذه النعم, {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}، ونسأل الله أن يحفظها وأن يوفق ولاة أمرنا إلى كل خير، وأن يحفظ علينا ديننا ووحدتنا ولحمتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.