د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
- قبل ثمانية عقود ونصف (كانون أول - ديسمبر 1933 م) ألقى الأستاذ محمد كرد علي محاضرة عنوانها (مُسامرة) أمام طلبة كلية الآداب في الجامعة المصرية - كما كانت تسمى - وذكر تفاصيلها الأستاذ عماد مصطفى، ودارت حول معضلةٍ أرقت الأمة خلال أربعة عشر قرنًا مثلما قال، وشعر بالقلق العظيم منها، وهي «ظاهرة تصدي العوام وغوغاء الشارع ومتزعمي الحركات الدينية السياسية لكل من خالف رأيهم أو ناقض حججهم أو استنَّ طريقًا فكريًّا أو مذهبيًّا متميزًا عما اعتادوه».. (الإبداع من نوافذ جهنم - كتاب الناقد - دار رياض الريس - تشرين أول 1995م -341-352).
- تجاوز صاحب «خطط الشام» ومؤسس أول مجمع لغوي عربي (1876- 1953 م) ما امتلأت به أحاديث القوم بعده من سلبيات إدخال العامة في القضايا الخاصة، وازداد القلق حولها بعدما صار للعامي منبر موازٍ لمنبر المتخصص؛ فاشتبك الجميع مع الجميع ولم يعد أحدٌ يعفُّ عن التداخل والتدخل والاتهام والاقتحام.
- وسم العامي هنا لا يعني التقليل من شأن أيٍ كان؛ فغير الاقتصادي عامي في الأسهم والسندات، وغير اللغوي عامي في النحو والبلاغة، ومن لا شأن له بالفيزياء لا يحق له الحديث عن تعديلات النظرية النسبية، وبذا يَجمع الأكثرون صفتي «العامي والنخبوي» في وقتٍ معًا، وليس أضرَّ على الطب من مدّعيه، وعلى الدين من خائضيه، وعلى التنمية من منظريها، وعلى الفلك من منجميه.
(2)
- من يغشى مجالس الناس يدرك أن قاسمًا مشتركًا يجمع همومهم، أو لنقل: يوحد أحاديثهم متصلًا بطبيعة الحياة اللاهثة، وتأثيرها على الأحياء الراكضين؛ حيث لم يعد «الصبر مفتاحًا» ولا «التأني سلامة»، ولا «المرء بأصغريه»، ولا «نعيب زماننا..»، ويظن فئامٌ أن هذا إيقاع عصرٍ جديد ومتغيرات متزامنة، ولكن أسلافنا وأسلافهم عاشُوا في المدار نفسه فتبدل الإطار، وبقيت الصورة؛ فلا جديد.
(3)
- يلوذ بالصمتِ من لا يسعفه الصوت، ويلجأ للتشفي من يتقن التخفي، وتظل النفس مدار الدرس؛ تشرق فتحتفي، وتبتئس فتنتكس، تؤلم وتنسى، وتحسن فتأسى، لا تحتفل بسجل، ولا تفيء إلى ظل، شمسُها غروبٌ وإبحار، وليلها فجرٌ وانفجار، مدارها التناقض، ومسارها النقائض، وإنسانها مفردٌ متعدد؛ يواجهه ماضيه فيعجب؛ يرى لأمسه وجهًا، ولجهره قناعًا، ولهمسه ميدانًا؛ في ابتسامته مبانٍ ولعبوسه معانٍ، لإقباله ارتماء ولهجره انكفاء، يتماهى حضوره بغيابه، وفروسيته باتضاعه. وكنا نتعامل مع نفوسٍ نعرفها فنألفها قربًا وبعدًا، فصرنا نتفاعل مع من لا نعرفه ولا نألفه، ولا يجمعنا به مكان، ولا توحدنا أذهانٌ أو لسان، ونتساءل - بعد هذا كله - هل نحن نحن؟
(4)
** العاميّة لغوٌ لا لغة.