د. زايد الحارثي
في البدء لابد أن نقرر أن رؤية 2030 والتحول الإستراتيجي لبناء البلد بشكل يزيد من الاعتماد على المواد البشرية غير البترولية هو هدف الوطن، وهدف كل المؤسسات والوزارات والمصالح والشركات بل وحتى الأفراد. بل إن التطلع هو لبناء وطن ومواطن يتناسب مع المرحلة الحالية والقادمة لشموخ الوطن واعتماده على ذاته في ظل التنافس الدولي اقتصادياً ومعرفياً وعلمياً وعسكرياً.. إلخ.
ومن أهم ومصادر الإلهام والتفعيل لأي إستراتيجية أو خطط هي الجامعات «مكان العلم والعلماء والبحث والفكر والتعليم، وهي مصدر مخرجات البناء... شباباً مؤهلاً أو بحوثاً مبدعة وحلولاً مبتكرة وقادة مؤثرين»، إن الجامعات بما تملكه من خبرة ومعارف ومكانة هي أهم مظاهر التطور وعلاقات التميز لأي نهضة في أي مجتمع، فعلى سبيل المثال أمريكا وهي الدولة التي تصنف الأولى في العالم اليوم في الاقتصاد وفي العلم وفي الإنتاج وفي التأثير العالمي نجد جامعاتها في طليعة الجامعات في العالم في كل تقييم وترتيب ومكانة، فمن ضمن أفضل مائة جامعة في العالم نجد أن نصف هذا العدد يأتي من الولايات المتحدة الأمريكية بل إنه من ضمن أفضل عشر جامعات في العالم نجد النسبة نفسها تحتلها الجامعات الأمريكية (هارفاد، ستنافورد، بيل، معهد ماساشوش للتكنولوجيا، بريتسون، شيكاغوا، وغيرها).
بل إن جامعة هارفارد على وجه الخصوص وهي الجامعة الأولى في العالم تقدر أرصدتها المالية بما يعادل مائتي مليار دولار (أي ما يزيد عن ميزانية كثير من الدول). وهي لمعلومية القارئ الكريم جامعة خاصة، وهكذا نجد أعظم الجامعات المتميزة هي الجامعات الخاصة أي التي تعتمد كلياً على مواردها الذاتية فلماذا وكيف؟ أن من المؤكد أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى وقفة موسعة خاصة.
ولكن المعروف أن استثمارات مثل هذه الجامعات تعدت حدود بلادها إلى بلاد وأقطار مختلفة فأصبحت أكبر من شركات وأقوى من مؤسسات أو وزارات، ونحن في المملكة العربية السعودية بعد أن اكتملت أو شبه اكتملت مرحلة بناء الجامعات من ناحية البنية التحتية أصبحنا بحاجة ماسة إلى التجاوب مع الرؤية الطموحة وأن لا ننتظر الوقت يمر دون أن نعد العدة ونعيد ترتيب سياسات وخطط الجامعات على وجه الخصوص بما يحقق أهداف الوطن والمواطن وهي ما تنسجم مع رؤية 2030
فقد مرَّ على تعليمنا الجامعي وجامعاتنا منذ بدايتها ما يقارب خمسين عاماً حتى أصبح لدينا تقريباً عدد كاف من الجامعات والمعاهد التقنية والفنية. وليس من المنطقي أن نحمل الجامعات أو المسؤولين فيها في المرحلة السابقة أسباب الاعتماد الكلي على الميزانيات التي تخصص لها من الدولة، فإن هذا أمر منطقي أن تكون البدايات للبناء والإنشاء وفي ظل وفرة مصادر التمويل الحكومي وفي ظل تأسيس التعليم الجامعي من الناحية الكمية... ولكن جاءت المرحلة التي تحتم الوقوف عند سياسات التعليم الجامعي وأهدافه للتجاوز تخريج موظفين حكوميين في المدارس والقطاعات المختلفة إلى كوادر مؤهلة بناءة قادرة على تحمل المسؤولية تجاه النفس والأهل والعائلة والمجتمع والوطن. وهنا يحضرني مثل عملي من تجربة مرت بي في أثناء عملي ملحقاً ثقافياً في ماليزيا وهي ثلاث جامعات خاصة في ماليزيا وهي جامعة بيتروناس Pertonas Univ وجامعة العلوم الأعمال والعلوم (MSU) وجامعة تانافا UNTM، الأولى تأسست وتتبع لشركة البترول الماليزية، والثانية جامعة خاصة تتبع لرجال أعمال أصحاب مبادرات مبدعة لصالح الوطن، والثالثة أسست من قبل شركة الكهرباء الماليزية. وسياق الاستشهاد هنا هو أن أكثر من تسعين في المائة من خريجي هذه الجامعات يتحصلون على أعمال فور تخرجهم وفي مدة أقصاها ستة أشهر. وللقارئ أن يتساءل كيف ولماذا؟ وببساطة تأتي الإجابة من كون برامج هذه الجامعات مبنية ومنفذة بما يحقق ويخدم بسوق العمل وتلبية حاجات القطاعات المختلفة. وليس هذا المثل ببعيد عن حال جامعتنا المتميزة جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وإن كانت جامعة حكومية إلا أن برامجها وسياستها وأهدافها قد أسست على أساس يحاكي ويحقق أهداف التنمية والسوق في البلد وبمهارة وسمعة عالمية عالية. حتى أن طلابها قبل أن يتخرجوا يستقطبون من الشركات والجهات الحكومية والأهلية. وهذه أمثلة فقط من نجاح تجارب الجامعات محلية ودولية وكيف ينبغي أن تكون عليه جامعاتنا لكي تحقق رؤية 2030.
وقبل أن استعرض رؤيتي لمسودة النظام الجديد أجد من الضرورة توعية من لا يعلم والتأكيد لم يعلم أن كثيراً من جامعاتنا لديها فرص وإمكانات استثمارية مقدرة وهائلة بما تملكه من أراضٍ ومواقع يمكن لو تم استثمارها بشكل صحيح أن تستغني تماماً عن الميزانية التي تخصص لها كل عام، بل وبإمكانها أن توفر فرصاً للعمل والدعم للشباب والجهات المختلفة. وليس المجال الآن لضرب أمثلة من هذه الجامعات فهي معروفة، كما أن هذه الجامعات وغيرها لديها طاقات وكوادر وعقول مؤهلة وقادرة على رفع دخل الجامعات واستثمارها مما تنتجه من أبحاث واستشارات وأفكار إبداعية ومنتجات رائدة وتدريبات ودورات للشركات والقطاعات المختلفة والأفراد.
وهنا يضاف دور إدارات الجامعات في القدرة على تحفيز وربط الجامعات وإمكاناتها الهائلة مع القطاع الخاص وقدرتها على القيادة والإدارة الصحيحة. وقد نجحت بعض الجامعات في تكوين خدمات ما يسمى الكراسي العلمية وأودية التقنية وإن لم يتم تقييم التجربة بعد.
ومع ذلك فقد لاحظت كمجرب ومشاهد وخبير في المجال أن هناك إهداراً كبيراً من طاقات وإمكانات الجامعات في بعض المشاريع والبرامج التي لم تشكل أولوية للجامعات. فمثلاً فورة وموضة الاعتماد الأكاديمي التي أرهقت كاهل الجامعات وإمكاناتها وأعمال المتطلبات الورقية لم تأت بالمردود الذي كان مؤملاً فيه، فبعد مرور ما يقارب عشر سنوات على المستوى النظري لم يواكبه واقع ملموس في صلب العلمية التعليمية في الجامعات، فالبنى التحتية هي بصفة عامة بل وربما يمكن أن نقول أن هناك ضعفاً ملحوظاً في هذه المخرجات لأن الكليات وأعضاءها انصرفوا في اللجان والإدارات والاجتماعات التي تتنافس في الحصول على ما يسمى الاعتماد الأكاديمي، ولو تم الاهتمام بالجودة في التدريس، والبحث العلمي، وفي الاهتمام بالطلاب وإكسابهم المهارات الضرورية، وتعميق علاقة الجامعة بالمجتمع واحتياجاته لكان أجدر وأهم وأجدى، وربما الاستثناء الوحيد في هذا الخصوص هو جامعة الملك فهد التي حافظت على الاهتمام بتوفير البنية التحتية وسعت إلى التطوير وحافظت عليه بما.... الجودة المميزة ولم تستهلك طاقات الأساتذة في وظائف ما يسمى وكالات وعمادات التطوير التي لو استثمرت في وظيفتها الأساسية لحققت نتائج أفضل ولوفرت كثيراً من الساعات المهدرة التي استقطعت لصالح الوظائف المستحدثة!!!