د. فوزية البكر
بعد نهاية الاحتفالات باليوم الوطني التي تمت في أستاذ الملك فهد الرياضي الذي سمح لنا كنساء بالدخول له رسميًا للمرة الأولى في ذلك الحدث (يومي 23 و24 سبتمبر 2017) خرجنا مع العائلة نبحث عن السيارة في زحام مئات الآلاف من الأسر التي جاءت بأطفالها وبناتها وشبابها وأذهلني أن لا أحد يتأمل أو يراقب الآخر كما اعتدنا، لا أحد يحاول معاكسة أو مضايقة المرأة أو الطفلة، سيارات الشرطة كانت في كل مكان وهذا ساعد لكن الفكرة المذهلة التي كنت أرقبها هي: كيف تحول السلوك السعودي من فكرة مطاردة المرأة في الفضاء العام وكأنها فرصة سيتكالب عليها الذئاب لمحارشتها إلى القبول بالمرأة في الفضاء العام ككائن يتشكل بصوره الطبيعية اللا نهائية كأم وأخت وطفلة وشابة وموظفة ومنظمة ومشاركة في فقرات الحفل.. الخ. من الأدوار التي تمكن المناخ الذي أسهم خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين محمد بن سلمان في خلقه بقراراتهم الرشيدة التي ستمكن المرأة السعودية بإذن الله من أن تعامل حقوقيًا ورسميًا، كما شقيقها الرجل وكما أقرت لها الشريعة الإسلامية أن تكون، ولنا في نساء حبيبنا رسول الله قدوة حسنة حين مكن زوجاته العظيمات كالسيدة خديجة بنت خويلد والسيدة عائشة من اتخاذ قرارات حاسمة كان لها أكبر الأثر في بقاء وانتشار رسالته العظيمة.
اليوم نعيش في المملكة العربية السعودية مرحلة تحول ضخمة ليس فقط في النسيج الاقتصادي، بل في طبيعة العلاقات والقيم الاجتماعية التي تنظم المؤسسات الاجتماعية المختلفة سواء داخل الأسرة وهي (الأهم) باعتبارها النواة الاجتماعية لتشكيل المجتمع أو داخل المؤسسات التعليمية والمهنية والاستهلاكية المختلفة التي نتداولها في حياتنا اليومية. بدأت المرأة تجد مكانها قليلاً قليلاً وبدأنا نرى الشابات السعوديات اللاتي طال عدم حصولهن على الفرص التعليمية والوظيفية يشققن غبار الزمن وينطلقن لاقتناص فرص طالما انتظرنها وهن ما زلن المسلمات الملتزمات بحجابهن وبتقاليدهن الإسلامية والسعودية المتميزة التي تؤكد على بقاء الأسرة وأمنها ودعم المؤسسات لبعضها لتحقيق السلام والأمن الاجتماعيين.
السؤال الذي يطرحه الكثيرون هو: كيف حدث أن تغير المجتمع فجأة فبدأ يقبل بما لم يكن يقبله بالأمس؟ كيف قبل بقضايا الاختلاط في الأماكن العامة وتوظيف النساء في القطاعات المختلفة وتعيين المبرزات منهن في مواقع صنع القرار؟
سأقدم تفسيري هنا وهو لا يعني بالطبع إلا جزءًا من الحقيقة وهو أن رحى التغيير في المجتمع السعودي كانت تجري على قدم وساق منذ انطلقت الدولة السعودية الثالثة عام 1932 على يد المغفور له الملك عبدالعزيز رحمه الله وتعززت باكتشاف النفط ثم ارتفاع موارده تدريجيًا مما أسهم في بدء خطط التنمية عام 1970 التي منحت المواطن مدرسة وبيتًا ومستشفى ولاحقًا قدمت له البعثات العلمية والبنى التحتية لوطن موحد حاول الابتعاد عن حس القبيلة إلى حس الدولة المدنية التي طوّرها بالتعليم وبنية مدنية تؤسس للدولة الحديثة لكن غمامة حروب الخليج أو ما لحقها من غمامة جهيمان التي نتج عنها ما (يسمونه الصحوة) التي أسقطت المجتمع في مستنقع الخوف والقلق والصراع مع الآخر المختلف مما جعل الناس تلبس أوجهًا لا نهائية لتتمكن من مجاراة ما هو مطلوب من فئات في المجتمع أو أن تقبل بالتغييب وتقبل الخوف من الحياة الحاضرة مما حدا بالكثيرين (وليس الجميع: هناك الكثير ممن استطاعوا استيعاب المرحلة والتوافق معاها بقبول شروطها عن رضا كامل وكان ذلك رد فعل طبيعيًا إذ ليس متوقعًا من الإنسان العادي في النظم الاجتماعية عامة أن ينتقد أو يرفض حيث إن طبيعة النظم الاجتماعية تحتم الموافقة الجماعية ليتمكن الإنسان من الاستمرار في العيش عن طريق تبني أسلوب الموافقة الجماعية (كما تقول النظرية الوظيفية) وهو ما دفع بالملايين لممارسة أساليب عيشهم طوال الثلاثين سنة الماضية حتى تتوافق مع ما كان مسيطرًا على الحياة.
ماذا حدث الآن؟ انكشف القناع وتبين أن الناس كانت في حالة خوف من أن تعيش كما تنمو من الداخل: الأمهات والآباء المتعلمون وأولادهم ممن دخلوا الجامعات أو الحقوا بالبعثات تغيروا من الداخل بفعل متغيرات التقدم والمدنية والتعليم ووسائل التواصل الاجتماعي: تغير مجتمعنا لكن سطوة بعض النافذين أطبقت على مؤسسات المجتمع وعلى مناخه العام فأدخلتنا في حروب مع أنفسنا والعالم.
اليوم نبدأ حقبة الانفراج حين اختار الملك سلمان والأمير محمد البقاء والتصالح مع التاريخ الإسلامي الحقيقي وليس الجهادي الذي ملأ العالم رعبًا وقتلاً: هنا بدأ المجتمع تدريجيًا في الإعلان عن متغيراته الداخلية التي طالت بناه القيمية وخاصة ما يتعلق بالمرأة أو الاختيارات الشخصية أو العامة: فلماذا تلوموننا على التغير: يجب أن نلوم أنفسنا على طول الانتظار؟!