عبده الأسمري
يسبقه استدلال المناصب ويعقبه اكتمال المراتب.. سيرته أشبه بمعادلة كيميائية تتسامى بين العنصر والمركّب..
مسيرته عبق أصيل وعمق نبيل. في حضرته يكتمل البدر إنجازاً وفي حضوره تتسيد «العصامية»، صنع اسمه في سجلات المسؤولية وحضر في الأوامر السامية.. كخيار واختيار أمثل طيلة عقود..
شخصيته مجلد بشري خط حروفه بروحه وشكّل عباراته بنبضه، وترك لمن وراءه «نظريات ومناظرات»، وخلّف أرثاً خالداً وتراثاً ماجداً في محافل السياسة والإعلام.
إنه وزير الإعلام والصحة والسفير الأسبق وأمين عام مجلس التعاون السابق معالي الأستاذ جميل الحجيلان، أحد الأوائل الذين شكلوا منهجاً بشرياً في الإدارة والريادة.
بوجه مستنير مستدير تسكنه البهجة وتعلوه علامات الحنكة والدراية، مع شارب أبيض زاده أناقة، وكاريزما فريدة وعينان واسعتان تشبه والده، وتتقاطع مع ملامح سعودية تشع من محياه الباسم وطلته المبتسمة، وصوت مسجوع بلغة سياسية وعبارات رأي وكلمات مشورة، ولهجة بيضاء ناصعة تتخللها مفردات وطنية وتتحفها اعتبارات إستراتيجية، يطل الحجيلان كقامة وهامة وطنية رجحت كفة المسؤولية بميزان الإنجازات التي تركها كإضاءات خلفه في كل موقع توجيه أو منطلق قرار.
نشأ الحجيلان وسط أسره تجارية تجوب نجد والشمال والشام في تجارة جائلة، فكان طفلاً يراقب جموع الباعة ومجاميع البيع واجتماعات الغلة في شهور عصيبة وبين أجواء متقلبة، فنمت في ذاكرته دافعية عميقة.. تعتقت روحه بنسمات القصيم ونسائم الشام، فأعتق روحه من رفاهية متاحة ليتحول إلى مكافح ومنافح، باحثاً عن استفسارات عدة، ملتحفاً بنصائح أسرية متسلحاً بإرشادات عائلية منحته «حب الخير» و»عشق العلا».
نصف قرن قضاها الحجيلان حاملاً حقيبته المليئة بشؤون القانون وشجون الدبلوماسية وتفاصيل الإعلام وخطط الصحة وسياسات الخليج..كان فيها يؤسس للأجيال بناءً من التكامل بين الثوابت والابتكار.. وظل خلالها يرصف جسوراً من الامتثال بين المتغيرات والتطور.. تمكن من مزج كيميائية الاعتراض مع القبول في تأسيس منظومة مستقبل للإعلام كأول وزير له، وظل في الصحة وزيراً حوّل طاولات الاجتماعات إلى غرف عمليات لخدمة المريض وتصفية الأخطاء وتهذيب الاستراتيجيات.. وبارى مهام الخارجية كسفير ترك له رصيداً في قلوب الشعوب وأفئدة الرعايا، وترك إمضاءاته على لوحات الشرف وفي سجلات الفخر.
سيرة دراسية عانق فيها الحجيلان الغربة وتعانق مع أمنيات وطنية نادته كونه من أوائل المتعلمين حينذاك، تخرّج في كلية الحقوق من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً) ثم التحق بوزارة الخارجية ، حيث عمل دبلوماسياً، وعمل في بعض السفارات في الخارج ثم توجه للإعلام، حيث عُيِّن مديراً عاماً للإذاعة والصحافة والنشر بمرتبة وكيل وزارة وعُيِّن كأول وزير إعلام سعودي ، وفي عهده أقيمت شبكة الإذاعة والتلفزيون ، وصدر نظام المؤسسات الصحافية ولمست القيادة كفاءته وعقليته فاستعانت به وزيراً للصحة بجانب الإعلام، ثم تفرغ لوزارة الصحة 1974م وعُيِّن كأول سفير لدولة الكويت وسفيراً لدى ألمانيا الاتحادية ثم سفيراً في فرنسا ثم عُيِّن أميناً عاماً لمجلس دول التعاون الخليجي. مضى الحجيلان وزيراً بإمضاءات إنسان وأمضى دبلوماسياً بإضاءات وطن، ماضياً إلى حيث «خانته المفضلة» قيادياً بارعاً.. سار بتواضع جم جعل باب مكتبه على مصراعيه للمراجعين، كقلبه الذي احتضن المطالب فحوّلها إلى أمنيات.. وكروحه التي امتزجت مع هموم الناس فشكّلت غيمة أمطرت بالقرارات في ضوء تنمية وظفها باقتدار، فسجلها له التاريخ كمواقف «وأبرزها له الوطن «كابن بار».
ظل الحجيلان ظلالاً من التنمية أظل مساحات السخاء المعرفي واستلهم من خبرته مكملات التطوير، فكان مؤسساً وموجهاً في عمله الوزاري ومهامه الداخلية والخارجية. متعددة هي الاتجاهات التي كان قلمه فيها حاضراً وقلبه خلالها ناضراً، فرسم خطوطاً خضراء للمرونة والتعاطي والفعل السياسي وحمراء للأمانة والنزاهة. خمسون عاماً هي «قيد سنين العمل»، ولكن الحجيلان استمر في سنوات عقبتها وجيهاً يملأ المكان.. «رجل دولة.. وكيان خبرة.. وأنموذج شرف.. ووجه ثقافة.. وواجهة معالي»..
احتفى الحجيلان بأجيال من الكبار كانوا يقفون أمامه في «صف التلامذة» ، واستوفى مآثره بينهم معلماً وأنموذجاً وقدوة، فحل الوفاء عنواناً للأثر والتأثير.
انتصر الحجيلان لبعد نظره بنبل ما قدمه واختصر عطاءاته في ميادين العمل بذكره العاطر، فظل في ذاكرة الوطن من الأوفياء المؤثرين المؤسسين المبدعين.