د. خيرية السقاف
فتحنا عيوننا في عهد الصحافة بيت الأدباء, والمثقفين الأول..
ولم نجد صعوبة بالغة في دس أنوفنا في أطباقهم, وعلى رائحة زكيِّ طعامهم ابتدرنا الطريق..
خطوة, وأخرى ونحن أطفال لا صغار فقط, التفتوا إلينا باهتمام, لم تشغلهم شهرتهم في قائمة الأدباء, أو مواقعهم من الرئاسة لأشهر الصحف في البلد..
سألوا عنا, بحثوا عن آبائنا, طلبوا منا المزيد وإن ركَّ, والاستمرار وإن تقطع..
منحونا مساحات في صحفهم، لا يحلم بها ناشئ, وضعوا أسماءنا جوار كُتَّاب بارزين, ولم يغمطوا حقًّا لأولئك الكبار المشاهير في الوقت ذاته بفرحهم بنا, فللكبير مقام التقدير, والأولية..
في هذه البيئة أخذ الصغير يكبر بوعي, وصفاء؛ فهي بيئة ثقافية نقية راقية, معطاءة, خصبة, باختلاف إمكاناتها, وقدراتها المختلفة, لكنها بيئة إنسانية تتغذى فيها القيم, وتنمو, وتُنتج..
تلك كانت الجذوة التي رموها داخلنا, وانسلوا..
وقد توقدت بها عزائمنا, فذهبنا نقتفي ما في عيون الكتب, ونلتهم, نتعرف مشاهير المفكرين, والأفكار, نجوب في قصص المترجمين, والمحليين, نقرأ كل شيء, نقارن, ونوازن, نسافر ونعود, نحلق ونحط.. نتفاعل مع الرُّحل في غياهب البحور, والكادحين في بؤس الحياة, والمجرمين في صراعات العيش, وصهوة الانتصار, والفلاسفة في صومعات الاستقراء, والتنظير, والعلماء في اكتشافات الأرض والسماء, والفنانين في أبهى التصاميم والابتكارات, نتغرب مع الراحلين, ونستقر مع الآيبين, ونبتكر لنا أجنحة, ونصنع لنا قوارب, ونحيك لنا فنارات, ونصوغ لنا أحلامًا ما نلبث أن نختزلها في مقالة, قصة, رسوم مبتدئة وأبيات شعر!!..
تجذبنا اللغة فنغوص في بحورها, نتأمل مجاديفها, وخرائطها, ومناراتها, ومجازاتها, وأبعادها, وما وراء معانيها, ونعود بصيد من أسماك إبحارنا, وغوصنا, وكلما أفرغنا مما في زوَّاداتنا الضئيلة في تلك المساحات التي منحونا نفرح كثيرًا؛ لأنهم قد فرحوا بنا, كافؤونا ببضعة دريهمات, وبكثير من كلمات تشدنا نحو التسابق مع أنفسنا, وتسابقنا..
كان أولئك الرعيل يختلفون بينهم, وتعلو حججهم, وتتفارق مواقفهم من قضايا فكرية، بما فيها على سبيل المثال «شاعرية» المرأة, وكنا نلح عليهم أن تتسع مراحل المدارس لنا, ونبلغ الجامعات, حينها كان طموحنا أن نحتوي من بعد غيرنا كما فعلوا, وأن نرتقي نحو أعلى جزء في عمود الخيمة, وأكبر حجر في قمة مرتفع, وأن ننتشر كماء المد, ولا ننحسر كماء الجزْر..
كان المثقفون متصالحين مع أنفسهم, ومع بعضهم, وإن اختلفت آراؤهم, يقرؤون لبعضهم, يعقبون على بعضهم, يضيفون لبعضهم, وكنا نقرأ لهم جميعهم, لا يختلفون أفرادًا وإن اختلفت أفكارهم, كانوا عصبة خير, يشيعون القيم, والسلام, والمحبة, وروح البناء, يفرحون بالصغار ليصبحوا كبارًا, ولا يتألمون من نجاحات بعضهم, ولا يتجاهلونها, ولا يطمسونها,
فصدورهم مساحات يعيش فيها الكل, ووسائلهم أرض لكل الوافدين ببذورهم..
ما بالهم اليوم لا يفعلون؟!!..
ما بالهم اليوم وقد ضربوا على أنفسهم شباكًا لا يدخلها, ولا يشاركهم فيها إلا من ينتقون, ومن يميلون إليه, ممن يعرفون, وكأنهم «الإخوة الأعداء»..
يضربون على من يختلفون معه سورًا من حديد؟!
لقد تغير الفعل, فتغير الحصاد..!