د. علي بن صالح الخبتي
كتبت كثيراً عن «ثقافة التبرير» وأعيد الكرة هنا لأهمية الموضوع البالغة.. فنحن على كل المستويات من موظفين وأصحاب أعمال وحتى أطفالنا ما إن نُسأل عن أي سلبية أو خطأ ارتكبناه حتى نلجأ للتبرير.. لم أسمع عن فرد في أي مستوى ارتكب خطأ واعترف به وقال إنه ارتكب الخطأ وتعلّم منه واكتسب تجربة وإنه سيحاول أن لا يعيد ارتكابه.. هذه هي ثقافة «الصدق» التي يجب أن نكرسها مقابل ثقافة التبرير.. يجب تبني المصداقية وتجنب تبرير تصرفاتنا الخاطئة.. مجتمعنا يعاني مشكلة «التبرير»، بحيث أصبحت سمة من سماته، ولو سألنا أبناءنا عن خطأ ارتكبوه لوجدناهم يتجهون مباشرة لتبرير تلك الأخطاء، بدلاً من تنشئتهم على قول الصدق والاعتراف بالخطأ والوعد بالاستفادة من الدرس الذي تعلّموه من ذلك الخطأ وعدم تكراره، بل اسأل الموظف الذي يعمل لديك عن خطأ ارتكبه واستمع مباشرة إلى محاولته تبرير فعلته والدفاع عنها وصرفه لوقت طويل من تفكيره، ليس في كيفية استفادته من ذلك الخطأ، بل في جمع أكبر عدد من المبررات التي يواجهك بها للتخلّص من تبعات ارتكاب ذلك الخطأ، بل اسأل المقاولين الذين تأخروا في تنفيذ مشروعات يقومون بتنفيذها، واستمع إلى قصص طويلة ومملة وغير منطقية يسوقونها لتبرير إخفاقاتهم، إنها «ثقافة التبرير» التي يجب أن يتصدى لها المجتمع بكافة فئاته على مستوى الأسرة ابتداءً، والمدرسة والجامعة حتى يخرج الفرد إلى المجتمع متخلصاً من هذه الثقافة السلبية وتكريس «ثقافة الصدق» بدلاً منها، الاتجاه للتبرير يجب أن يتبدل بسبب سلبيته المتناهية وانعكاس سلبياته على إنجازاتنا ونجاحاتنا وتقدمنا، إنها ثقافة مؤذية بكل المقاييس، نعرف تمام المعرفة أن الخطأ سمة من سمات البشر، وأننا خطّاؤون، إذن، كيف نتعامل مع الأخطاء التي نرتكبها؟ الجواب: الاعتراف بالخطأ والوعد بالاستفادة من الدرس الذي تعلّمناه منه والوعد بعدم تكراره، والوالدان في الأسرة والرئيس في العمل يجب أن يقابلوا هذا الموقف النبيل من الطفل أو الموظف بالتقدير، بهدف تكريس ثقافة الصدق والابتعاد عن تشجيع نمو ثقافة التبرير، وكذلك على مستوى العمل تشجيع ثقافة المبادرات التي عادة ما يعتريها مشكلات وأخطاء، لأنه وكما قال أديسون: «الخطأ طريق لا يؤدي إلى الحقيقة»، إذ الخطأ هو اكتشاف وليس عيباً، هو اكتشاف طريق مسدود نتعلّم منه ألا نطرق هذا الطريق مرة أخرى، هذه ثقافة متحضرة، والسؤال الملح: من المسؤول عن تريس «التبرير» في مجتمعنا؟ في المجتمعات المتحضِّرة يتعلّم الأطفال قبل دخول المراحل الأولى في التعليم وقبل مرحلة الدراسة هذه الثقافة في المنزل، سواء بالتعليم المباشر بأن يقول الحقيقة، أو عن طريق القدوة من والديه، هذا ليس إعجاباً بثقافة الغرب كما قد يتبادر للقارئ عندما يقرأ هذه العبارة، وإنما هي حقيقة متأصلة في مجتمعهم يلمسها كل من يعرف تلك المجتمعات، إنهم لا يبررون ولا يقبلون تبرير الأخطاء من أبنائهم ويعفون عن الخطأ الأول بحزم منددين بالعقاب إن تكرر، الأسرة مسؤولة بالمقام الأول، فالتربية تبدأ أولاً من الأسرة لينشأ الطفل على سلوكيات إيجابية قال فيها أبو العلاء المعري:
أما تدري أبانا كلُّ فرعٍ
يجاري بالخطى من أدبوه
وينشأ ناشئ الفتيان فينا
على ما كان عوَّده أبوه
ثم المدرسة، التي تكرّس القيم التي غرستها الأسرة في الأطفال منذ «نعومة أظفارهم»، وتتأكد المدرسة من استيعابها ثم ممارستها على الواقع من قبل الأطفال، تكريس معاني الصدق وأين يؤول بصاحبه؟ والكذب وأين يأخذ ممارسه؟ والأمانة وما هي نتيجتها وسوء أدائها وعواقب ذلك السوء في أدوار تمثيلية أو مشروعات مشتركة مخططة ومبنية بعناية؟ أمور في غاية الأهمية، ويجب أن تكون من أولويات التربية لدينا في الأسرة والمدرسة، وأركز على قضية الاستمرار في ذلك التكريس.
نحن كمجتمع إسلامي أولى من أي مجتمع آخر بهذه القيم، ويجب أن يعود مسلمونا لإسلامنا الصافي المنبع الذي يفيض علينا سلوكاً يكشف ذلك الصفاء، إنه لأمر غريب أن تجد قيمنا الإسلامية في مجتمع غير مسلم، نحن أولى بألا نبرر أخطاءنا، ونحن وانطلاقاً من تعاليم ديننا أولى أن نكون أول من يعترف بالخطأ، لماذا نشعر بالزهو والانتصار عندما ننجو بمبرراتنا من خطأ ارتكبناه؟ وكيف نشعر داخل أنفسنا عندما نواجه أنفسنا بأننا نجونا من الخطأ بمبررات زائفة؟ هل نستطيع أن نتعايش مع أنفسنا ونحن نعلم يقيناً سوءها؟
ما أقوله هنا لا يمكن تحقيقه بالسهولة، خصوصاً في عصرنا الحاضر الذي تبدل فيه مسرحنا المجتمعي وتغير وتعقد، فصحيح أن ما يتعلّمه الطفل في المنزل يجد ما يناقضه في الشارع، وما يتعلّمه في المدرسة يجد ما يلغيه في وسائل الاتصال الحديثة من الفيس بوك وتويتر واليوتيوب واتصاله مع الآخرين عبر الإنترنت، وفي هذا السياق أورد البروفيسور هاورد جاردنر أستاذ علم النفس في جامعة هارفرد حلاً نوعياً لتكريس القيم لدى الأطفال وتفريغ عقولهم من القيم السيئة، إذ يقول:»إننا قبل أن نغرس القيم السامية في نفوس وعقول أطفالنا، يجب أن نعرف ما بداخل الصندوق الأسود،» في تعبير استعاري جميل لعقل الطفل، ولهذا يجب علينا كآباء ومربين أن نسبر عقول أطفالنا لنعرف القيم السيئة التي اكتسبوها من مصادر سيئة، وأورد طرقاً وأساليب علمية لكيفية ذلك، لأنه كما يقول: «ليس هناك مكان للقيم الفاضلة في ظل وجود قيم سيئة، أو أن القيم السيئة قد تكون أقوى من القيم الفاضلة فتنسخها».
وخلاصة القول، مجتمعنا لا يستحق «ثقافة التبرير» .. إننا مجتمع يتم غرس المثل والأخلاق العالية والقيم السامية المبنية على عقيدنا الإسلامية منذ نعومة أظفارنا في البيت والمدرسة.. وثقافة التبرير لا تليق بمجتمعنا.. لهذا يجب التركيز على هذه المشكلة والتفكير فيها وإيجاد الحلول لها.. والحل الأمثل أن نقول لأطفالنا وموظفينا إنه لا بأس من ارتكاب الخطأ إذا كان غير متعمد لنكسب منه الدروس أولاً وأن لا نعود إليه ثانياً. وإن تخليص مجتمعنا من هذه الثقافة مسؤوليتنا جميعاً في بيوتنا ومدارسنا وأماكن عملنا.